للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأشهد على نفسه بالتوبة والإنابة مما يعانيه من أمور السُّلْطان، وذكر للنَّاس أنه إنما يأكل من حين نشأ وإلى يومه هذا من أموال أبيه وجدِّه (١)، ولكن كان يخالط السُّلْطان، وهو تائب مما مارسه من شؤونه. واتخذ بيتًا في داره سمَّاه دار التوبة، ووضع العلماء خطوطهم بصحة توبته. وحين حدَّث استملى عليه جماعة لكثرة مجلسه، فكان من جملة من يكتب ذلك اليوم من الطلبة القاضي عبد الجبار الهَمَذاني (٢) وأضرابه ومن شابهه من رؤوس الفضلاء، وسادات المحدثين والفقهاء.

وقد بعث إليه قاضي قَزْوين بهدية كتبٍ سَنيَّة، وكتب معها:

العَمِيْريُّ (٣) عبدُ كافي الكُفَاةِ … وإن اعْتُدَّ (٤) في وُجُوهِ القُضاةِ

خَدَمَ المجلسَ الرفيعَ، بكُتْبٍ … مُفْعَمَاتٍ من حُسْنها مُتْرَعاتِ

فلما وصلتْ إليه أخذ منها كتابًا واحدًا، ورَدَّ باقيها، وكَتَبَ تحت البيتين:

قد قَبِلْنا من الجميعِ كتابًا … وَرَدَدْنا لِوَقْتها الباقياتِ

لستُ أستغنمُ الكثير وطبْعي … قولُ خذْ، ليس مذهبي قَوْلُ هاتِ

وجلس الوزير ابن عباد مرَّة في مجلس شَرَاب، فناوله الساقي كأسًا، فلما أراد شربها قال له بعض خُدَّامه: يا سيدي، إن هذا الذي في يدك مسموم. قال: وما الشاهد على صحة قولك؟ قال تجرِّبه. قال: فيمن؟ قال في السَّاقي. قال ويحك لا أستحل ذلك، قال ففي دجاجةٍ، قال: إنَّ التمثيل بالحيوان لا يجوز. ثم أمر بصبِّ ما في [ذلك] (٥) القدح وقال للسَّاقي: لا تدخل داري بعد هذا. ولم يقطع عنه معلومه.

وقد عَمِلَ عليه الوزير أبو الفتح بن ذي الكفايتين حتى عَزَله عن وزارة مُؤَيَّد الدولة [في وقتٍ] (٦) وباشرها عوضه، واستمرَّ مُدَّة، فبينا هو ليلة في بعض أيامه قد اجتمع عنده أصحابه وندماؤه وهو في أتمِّ السُّرور، قد هيئ له مجلسٌ حافل بأنواع اللَّذَّات من المآكل والمشارب والملابس والتحف، وقد نَظمَ أبياتًا والمغنون يلحنونها، وهو في غاية الطَّرب والسُّرور، وهي هذه الأبيات:

دعوتُ الهنا ودعوتُ العُلا (٧) … فلما أجابا دَعَوْتُ القَدَحْ


(١) في (ط) زيادة: مما ورثه منهم.
(٢) انظر ترجمته في تاريخ بغداد (١١/ ١١٣ - ١١٥) وسير أعلام النبلاء (١٧/ ٢٤٤ - ٢٤٥).
(٣) هو قاضي قزوين، انظر المنتظم (٧/ ١٨٠) ومعجم الأدباء (٦/ ٢٥٢).
(٤) في (ح) و (ب): اعتل، وفي (ط): أعقل، والمثبت من المنتظم ومعجم الأدباء.
(٥) ما بين حاصرتين من (ط) و (ب).
(٦) ما بين حاصرتين من (ب) و (ط).
(٧) في إحدى نسخ المنتظم (٧/ ١٧٩): الظلا.

<<  <  ج: ص:  >  >>