للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان لا يجلس في الديوان إلا وعنده الفقهاء، فإذا وقع له أمر مشكل يسألهم فيه، فحكم بما يفتونه به، وكان كثير التواضع مع الناس، خاصَّتِهم وعامَّتِهم.

ثمّ إنه عزل عن الوزارة فسار إلى الحج، وجاور بالمدينة النبويّة [ثمّ مرض] فلما ثقل في المرض جاء إلى الحجرة النبويّة فقال: يا رسول الله، قال الله : ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا﴾ [النساء: ٦٤] وها أنا [قد جئتك] أستغفر الله من ذنوبي، وأرجو شفاعتك فيها يوم القيامة. ثمّ مات من يومه ذلك، فدفن بالبقيع، رحمه الله تعالى.

القاضي أبو بكر الشاميُّ (١) محمد بن المظفر بن بكران الحَمَوي، أبو بكر الشامي.

ولد سنة أربعمئة، وتفقّه ببلده (٢)، ثم حجّ في سنة سبع عشرة، وقدم بغداد فَتَفقه على الشيخ أبي الطيّب الطَّبَري، وسمع بها الحديث، وشهد عند ابن الدّامغاني فقبله، ولازم مسجده خمسًا وخمسين سنة، يُقرئ الناس ويُفَقِّههم، ولما مات أبو عبد الله الدّامغاني، أشار به أبو شجاع الوزير، فولاه الخليفة المقتدي القضاء، وكان من أنزه الناس وأعفّهم، فلم يقبل من سلطان عطيّة، ولا من صاحب هديّة، ولم يغيّر ملبسه، ولا مأكله، ولم يأخذ على القضاء أجرًا، ولم يستنب أحدًا، بل كان يباشر القضاء بنفسه، ولم يحاب مخلوقًا، وقد كان يضرب بعض المنكرين حيث لا بيّنة، إذا قامت عنده قرائن التهمة، حتى يقرّوا، ويذكر أن في كلام الشافعي ما يدلّ على هذا، وقد صئف أبو بكر الشاشي كتابًا في الردّ عليه في ذلك (٣)، ونصره ابن عقيل فيما كان يتعاطاه من الحكم بالقرائن، واستشهد له بقوله تعالى: ﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ﴾ [يوسف: ٢٦].

وشهد عنده رجل من كبار الفقهاء والمناظرين، يقال له: [المشطب] (٤) بن محمد بن أسامة الفَرَغَاني، فلم يقبله، لما [رأى] عليه من الحرير، وخاتم الذَّهب، فقال له المدَّعي: إنّ السلطان ووزيره نظام المُلْك، يلبسان الحرير والذهب! فقال القاضي الشامي: [والله] لو شهدا عندي على باقة بقل ما قبلت شهادتهما، [ولرددت شهادتهما.

وشهد عنده مرّةً فقيه فاضل، من أهل مذهبه فلم يقبله، فقال: لأي شيءٍ تردّ شهادتي، وهي جائزة


(١) في (ط): "الشاشي" وهو تحريف قبيح، فهو حموي شامي (بشار).
(٢) يعني: حماة.
(٣) سماه: "الرد على من حكم بالفراسة وحققها بالضرب والعقوبة" (المنتظم ٩/ ٩٥)، وكان الشاشي هذا عدوًا للشامي (بشار).
(٤) زيادة من (ب) و (ط).

<<  <  ج: ص:  >  >>