للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويرجعون، فتطوَّلت عليهم وصفحت عنهم فأكثرت ومددت لهم في العمر، وأعذرت لهم لعلهم يتذكرون. وكل ذلك أُمطر عليهم السماء وأنبت لهم الأرض وألبسهم العافية وأظهرهم على العدو؛ ولا يزدادون إلّا طغياناً وبُعداً مني. فحتى متى هذا؟ أبي يسخرون؟ أم بي يتحرَّشون؟ أم إياي يُخادعون؟ أم عليَّ يجترئون؟ فإني أُقسم بعزتي لأُتيحنَّ عليهم فتنة يتحير فيها الحكيم، ويضل فيها رأي ذوي الرأي وحكمة الحكيم، ثم لأسلطن عليهم جباراً قاسياً عاتياً أُلبسه الهيبة وأنزع من قلبه الرأفة والرحمة، وآليت أن يتبعه عددٌ وسوادٌ مثلُ الليل المظلم، له فيه عساكر مثل قطع السحاب، ومواكب مثل العجاج، وكأن حفيف راياته طيرانُ النسور، وحمل فرسانه كسرب العقبان (١) يعيدون العمران خراباً والقرى وحشاً، ويعيثون في الأرض فساداً، ويُتبِّرون ما علوا تتبيراً، قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقون ولا يَرحمون ولا يبصرون، ولا يسمعون، يجولون في الأسواق بأصوات مُرتفعة مثل زئير الأسد تقشعِرُّ من هيبتها الجلود، وتطيش من سمعها الأحلام، بألسنة لا يفقهونها، ووجوه ظاهر عليها المنكر لا يعرفونها.

فوعزَّتي لأُعَطّلن (٢) بيوتهم من كتبي وقدسي، ولأُخْلِيَن مجالسهم من حديثها ودروسها، ولأُوحِشَن مساجدَهم من عمّارها وزوّارها الذين كانوا يتزيَّنون بعمارتها لغيري، ويتهجَّدون فيها ويتعبَّدون لكسب الدنيا بالدين، ويتفقّهون فيها لغير الدين، ويتعلَّمون فيها لغير العمل. لأُبدلن ملوكها بالعز الذل، وبالأمن الخوف، وبالغنى الفقر، وبالنعمة الجوع، وبطول العافية والرخاء أنواع (٣) البلاء، وبلباس الديباج والحرير مَدارع الوبر والعباء، وبالأرواح الطيبة والأدهان جِيفَ القتل، وبلباس التيجان أطواق الحديد والسلاسل والأغلال. ثم لأعيدنَّ فيهم بعد القُصور الواسعة والحصون الحصينة الخرابَ، وبعد البروج المشيَّدة مساكن السباع، وبعد صَهيل الخيل عواء الذئاب، وبعد ضوء السراج دخان الحريق، وبعد الأنس الوحشة والقفار. ثمّ لأبدلنَّ نساءها بالأسوِرَةِ الأغلال، وبقلائد الدر والياقوت سلاسل الحديد، وبألوان الطيب والأدهان النقع والغبار، وبالمشي على الزَّرابي (٤) عُبور الأسواق والأنهار والخبب إلى الليل في بطون الأسواق، وبالخدور والستور، الحسور عن الوجوه والسوق والأسفار والأرواح السّموم. ثمّ لأدوسنهم بأنواع العذاب حتى لو كان الكائن منهم في حَالِق (٥) لَوَصَل ذلك إليه.

إني إنما أُكرم من أكرمني، وإنما أُهين من هانَ عليه أمري. ثمّ لآمرَنَّ السماء خلال ذلك فلتكونن


(١) الخبر في تاريخ الطبري (١/ ٥٤٨ - ٥٥٠). وتفسيره (١٥/ ٢٩ - ٣٠)، وفي بعض النسخ: كنصوب العقبان.
(٢) التعطيل: التفريغ.
(٣) في ب: ألوان.
(٤) الزّرابي: البسط. مفردها: زُِربي.
(٥) الحالق: الجبل المنيف المشرف، ولا يكون إلا مع عدم نبات. اللسان.