للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال الإمام أحمد (١): حدثنا يزيد، يعني ابن هارون، أخبرنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "كانَ زَكَرِيّا نجارًا".

وهكذا رواه مسلم (٢) وابن ماجة (٣) من غير وجه (٤) عن حماد بن سلمة به.

وقوله: ﴿يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا﴾ وهذا مفسر بقوله: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾. فلما بُشر بالولد وتحقَّق البشارة، شرع يستعلم على وجه التعجُّب وجود الولد والحالة هذه له ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا﴾ أي كيف يوجد ولد من شيخ كبير؟! قيل: كان عمره إذ ذاك سبعًا وسبعين سنة، والأشبه -والله أعلم - أنه كان أسن من ذلك ﴿وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا﴾ يعني وقد كانت امرأتي في حال شبيبتها عاقرًا ولا تلد. والله أعلم. كما قال الخليل ﴿أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر: ٥٤]. وقالت سارة: ﴿يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ [هود: ٧٢، ٧٣]. وهكذا أُجيب زكريا ، قال له الملَك الذي يوحي إليه بأمر ربه: ﴿كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ أي هذا سهل يسير عليه ﴿وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ أي قُدْرَتُه أوجدتْك بعد أن لم تكن شيئًا مذكورًا، أفلا يوجِدُ منكَ ولدًا وإن كنت شيخًا (٥).

وقال تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ ومعنى إصلاح زوجته أنها كانت لا تحيض فحاضت. وقيل: كان في لسانها شيء، أي بذاءه (٦) ﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً﴾ أي: علامة على وقت تعلّق مني المرأة بهذا الولد المبشّر به ﴿قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا﴾ يقول: علامة ذلك أن يعتريك سكت لا تنطق معه ثلاثة أيام إلا رمزًا، وأنت في ذلك سَويّ الخلق، صحيح المزاج، معتدل البنية. وأمر بكثرة الذِّكر في هذه الحال بالقلب واستحضار ذلك بفؤاده بالعشي والإبكار، فلما بشّر بهذه البشارة خرج مسرورًا بها على قومه من محرابه ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾. والوحي هاهنا هو


(١) المسند (٢/ ٢٩٦).
(٢) صحيح مسلم رقم (٢٣٧٩)، في الفضائل، باب من فضائل زكريا .
(٣) سنن ابن ماجة رقم (٢١٥٠)، في التجارات، باب الصناعات.
(٤) قوله: من غير وجه ليس في ب. فمسلم رواه عن هدّاب بن خالد عن حماد. وابن ماجة عن محمد بن عبد الله الخزاعي والحجاج بن منهال، والهيثم بن جميل، عن حماد.
(٥) في ب: شيخًا كبيرًا.
(٦) تفسير الطبري (١٧/ ٦٦)، والقرطبي (١١/ ٣٣٦)، وابن كثير (٣/ ١٩٣).