للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فسلَّمتها إلى العُبّاد الذي هم مقيمون به، وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم فتنازعوا فيها.

والظاهر أنّها إنّما سلَّمتها إليهم بعد رضاعها وكفالة مثلها في صغرها. ثمّ لمّا دفعتها إليهم تنازعوا في أيّهم يكفلها، وكان زكريا نبيهم في ذلك الزمان قد أراد أن يستبدّ بها دونهم من أجل أن زوجته أختها أو خالتها على القولين، فشاحُّوه في ذلك، وطلبوا أن يقترع معهم، فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة لهم، وذلك أن الخالة بمنزلة الأم. قال الله تعالى: ﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ أي بسبب غلبه لهم في القُرعة. كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: ٤٤].

قالوا (١): وذلك أن كلًا منهم ألقى قلمه معروفًا به، ثمّ حملوها ووضعوها في موضع، وأمروا غلامًا لم يبلغ الحنث، فأخرج واحدًا منها، وظهر قلم زكريا . فطلبوا أن يقترعوا مرّة ثانية وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر، فأيّهم جَرى قلمُه على خلاف جرية الماء (٢) فهو الغالب، ففعلوا، فكان قلم زكريا هو الذي جرى على خلاف جَرية الماء، وسارت أقلامهم مع الماء، ثم طلبوا منه أن يقترعوا ثالثة فأيُّهم جرى قلمه مع الماء، ويكون بقية الأقلام قد انعكس (٣) سيرها صعُدًا فهو الغالب، ففعلوا، فكان زكريا هو الغالب لهم، فكفلها إذ كان أحقَّ بها شرعًا وقدرًا لوجوه عديدة.

قال الله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ قال المفسرون: اتخذ لها زكريا مكانًا شريفًا من المسجد لا يدخله سواها، فكانت تعبد اللّه فيه وتقوم بما يجب عليها من سدانة البيت إذا جاءت نوبتُها، وتقوم بالعبادة ليلَها ونهارَها، حتى صارت يُضرب المثل بعبادتها في بني إسرائيل، واشتهرت بما ظهر عليها من الأحوال الكريمة والصفات الشريفة، حتى إنه كان نبي اللّه زكريا كلما دخل عليها موضع عبادتها يجدُ عندها رزقًا غريبًا في غير أوانه، فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف (٤) فيسألها أنَّى لك هذا؟ فتقول: ﴿هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ أي رزق رَزَقَنِيْه اللّه، إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حساب، فعند ذلك وهنالك طمع زكريا في وجود ولدٍ من صُلبه وإن كان قد أسَنَّ وكبر ﴿قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾. قال بعضهم: قال: يا من يرزق مريم الثمر في غير أوانه (٥) هب لي ولدًا، وإن كان في غير أوانه، فكان من خبره وقضيته ما قدّمنا ذِكره في قصته.


(١) تفسير الطبري (٣/ ١٦٢).
(٢) كذا في ب. وهو الأشبه كما سيأتي في سياق الكلام. وفي أ وط: في الماء.
(٣) في ب: انغطس. وكُتب في الحاشية: لعله: انعكس.
(٤) تفسير الطبري (٣/ ١٦٥).
(٥) في ب: إبّانه.