للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ فاستكانت لذلك وأنابت وسلَّمت لأمر اللّه، وعلمت أن هذا فيه محنةٌ عظيمةٌ لها، فإن الناس يتكلمون فيها بسببه، لأنهم لا يعلمون حقيقةَ الأمر، وإنما ينظرون إلى ظاهر الحال من غير تدبُّرٍ ولا تعقُّلٍ، وكانت إنما تخرج من المسجد في زمن حَيْضها، أو لحاجةٍ ضروريَّةٍ لا بدَّ منها؛ من استقاء ماءٍ أو تحصيل غذاءٍ، فبينما هي يومًا قد خرجتْ لبعض شؤونها ﴿فَانْتَبَذَتْ﴾ أي انفردت وحدَها شرقي المسجد الأقصى إذ بعث اللّه إلَيْها الروحَ الأمين جبريل ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾ فلما رأتْهُ ﴿قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا﴾. قالَ أبو العالية: علمتْ أنّ التقي ذو نهيةٍ، وهذا يردُّ قول من زعم أنه كان في بني إسرائيل رجل فاسقٌ مشهور بالفسق اسمه "تقي" فإن هذا قولٌ باطلٌ بلا دليل، وهو من أسخف الأقوال.

﴿قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ﴾: أي: خاطَبها الملك قائلًا إنما أنا رَسُول ربك لستُ ببشرٍ ولكني مَلَك بعثني اللّه إليكِ ﴿لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾ أي: ولدًا زاكيًا (١) ﴿قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ﴾ أي: كيف يكون لي غلام أو يوجد لي ولد ﴿وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا﴾ أي ولستُ ذاتَ زوجٍ، وما أنا ممن يفعلُ الفاحشةَ ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ أي فأجابها المَلَك عن تعجُّبها من وجود ولدٍ منها والحالة هذه قائلًا ﴿كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ﴾ أي وعَدَ أنه سيخلق منكِ غلامًا ولستِ بذاتِ بعلٍ ولا تكونين ممن تبغين ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ أي وهذا سهل (٢) عليه ويسير لديه، فإنه على ما يشاء قدير.

وقوله: ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ﴾ أي ولنجعل خلقه والحالة هذه دليلًا على كمال قُدرَتِنا على أنواع الخلْق، فإنه تعالى خلقَ آدمَ من غير ذكرٍ ولا أنثى، وخلق حواء من ذكرٍ بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، وخلق بقيةَ الخلق من ذكر وأنثى.

وقوله: ﴿وَرَحْمَةً مِنَّا﴾ أي نرحم به العباد بأن يدعوهم إلى اللّه في صغره وكبره في طفولته وكهولته بأن يُفرِدوا (٣) اللّه بالعبادة وحده لا شريك له وينزهو (٤) عن اتخاذ الصاحبة والأولاد والشركاء والنظراء والأضداد والأنداد.

وقوله: ﴿وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل معها؛ يعني أن هذا أمرٌ قد قضاه الله وحَتَّمَه وقدَّره وقرَّره، وهذا معنى قول محمد بن إسحاق، واختاره ابن جرير (٥) ولم يحك سواه. والله أعلم. ويحتمل أن يكون قوله: ﴿وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا﴾ كنايةً عن نفخ جبريل فيها كما قال


(١) في ط: زكيًا.
(٢) في ب: أسهل.
(٣) في ب: يفرد.
(٤) في ب وينزهه.
(٥) تفسير الطبري (١٦/ ٤٧).