للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الخمسة (١) الكبار، ولهذا قال: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ﴾ وذلك أنه حيث كان دعا إلى عبادة اللّه وحدَه لا شريك له، ونزّه جنابه عن النقص والعيب من اتخاذ الصاحبة والولد تعالى وتقدَّس ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ وهذه وظيفة العبيد في القيام بحق العزيز الحميد بالصلاة والإحسان إلى الخليقة بالزكاة، وهي تشمل طهارة النفوس من الأخلاق الرذيلة، وتطهر الأموال الجزيلة بالعطية للمحاويج (٢) على اختلاف الأصناف وقِرى الأضياف والنفقات على الزوجات والأرقاء والقرابات، وسائر وجوه الطاعات وأنواع القُرُبات.

ثم قال: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ أي: وجعلني برًا بوالدتي وذلك أنه تأكّد حقها عليه لمحض جهتها، إذ لا والد له سواها، فسبحان من خلق الخليقة وبرأها، وأعطى كلّ نفس هداها.

﴿وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا﴾ أي لستُ بِفَظٍّ ولا غليظ، ولا يصدر مني قولٌ ولا فعلٌ ينافي أمر اللّه وطاعته.

﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾. وهذه الأماكن (٣) الثلاثة التي تقدَّم الكلام عليها في قصة يحيى بن زكريا .

ثمّ لما ذكر تعالى قصّته على الجلية، وبيّن أمرَه ووضّحه وشرحه قال: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾. كما قال تعالى بعد ذكر قصته وما كان من أمره في آل عمران: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ [آل عمران: ٥٨ - ٦٣]. ولهذا لما قَدِم وفد نجران (٤) وكانوا ستينَ راكبًا يرجع أمرُهم إلى أربعة عشر منهم، ويؤول أمر الجميع إلى ثلاثة هم أشرافهم وساداتهم، وهم العاقب والسّيد وأبو حارثة بن علقمة، فجعلوا يناظرون في أمر المسيح، فأنزل اللّه صدر سورة آل عمران في ذلك، وبين أمر المسيح وابتداء خلقه وخلق أُمه من قبله، وأمر رسوله بأن يباهِلَهم (٥) إن لم يستجيبوا له ويتبعوه، فلما رأوا عينيها وأذنيها نكلوا ونكصوا وامتنعوا عن المباهلة وعدلوا إلى المسالمة والموادعة، وقال قائلهم، وهو العاقب


(١) ليست في ب. وأولو العزم من الرسل هم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد .
(٢) المحاويج: جمع مُحْوِج وهو المعدم.
(٣) في ب: المواطن.
(٤) سيأتي تفصيل الحديث عن وفد نجران في الجزء الخامس، باب الوفود.
(٥) المباهلة: الملاعنة، وهو أن يجتمع القوم إذ اختلفوا في شيء فيقولوا لعنة اللّه على الظالم منا.