للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واعتصموا بالجبال والتلال، وأَنّه لم يسلم منهم إلا القليل، فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم، وتباشروا لهذا الفتح العظيم والنّصر المبارك، ودقّت البشائر بالقلعة من أول النهار المذكور، ونُودي بعد الظهر بإخراج الجُفَّال (١) من القلعة لأجل نزول السُّلطان بها، وشرعوا في الخروج.

وفي يوم الإثنين رابع الشهر رجع الناس من الكُسْوة إلى دمشق، فبشَّروا النَّاس بالنَّصر. وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد، ففرح النّاس به ودعَوْا له وهنّؤوه بما يسر الله على يديه من الخير، وذلك أَنّه ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق، فسار إليه فحثَّه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، فجاء هو وإياه جميعًا، فسأله السُّلطان أن يقف معه في معركة القتال، فقال له الشيخ: السُّنَّةُ أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم، وحرض السلطان على القتال، وبشَّره بالنصر، وجعل يحلف له بالله الذي لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا. وأفتى الناسَ بالفطر مدَّة قتالهم، وأفطر هو أيضًا، وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شى معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليتقوَّوا على القتال أفضل، [فيأكل الناس] (٢)، وكان يتأوَّل في الشاميين قوله : "إنكُم مُلاقُو العدوَّ غدًا، والفِطْر أقْوى لَكُم" فعزم عليهم في الفطر عام الفتح كما في حديث أبي سعيد الخُدري (٣).

وكان الخليفة أبو الربيع سليمان في صحبة السلطان، ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتًا عظيمًا، وأمر بجواده فقيِّد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف، وجرت خُطوب عظيمة، وقُتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، منهم الأمير حسام الدين لاجين الرُّومي أستاذ دار السلطان، وثمانية من الأمراء المقدَّمين معه، وصلاح الدين بن الملك السعيد الكامل بن السعيد بن الصالح إسماعيل (٤)، وخلق من كبار الأمراء، ثم نزل النصر على المسلمين قريب العصر يومئذ، واستظهر المسلمون عليهم. ولله الحمد والمنة.

فلما جاء الليلُ لجأَ التتر إلى اقتحام التُّلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر، فقتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله ﷿، وجعلوا يجيؤون بهم في الحبال فتضرب أعناقهم، ثم اقتحم منهم جماعة الهزيمة فنجا منهم القليل، ثم كانوا يتساقطون في الأودية والمهالك، ثم بعد ذلك غرق منهم جماعة في


(١) "الجفّال": الهاربون.
(٢) زيادة من ط.
(٣) هكذا رواه المؤلف بالمعنى، وهو في صحيح مسلم رقم (١١٢٠) في الصَّيام، باب: أجر المفطر في السفر إذا تولى العمل، وأبو داود أيضًا رقم (٢٤٠٦) في الصّوم، باب: الصوم في السفر، وفي لفظه اختلاف.
(٤) النجوم الزاهرة (٨/ ٢٠٦) وبدائع الزهور (١/ ٤١٤)، وفيهما ذكر لمن استشهد معهم في ذلك اليوم.

<<  <  ج: ص:  >  >>