للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن زعم أن يأجوج ومأجوج خلقوا من نطفة آدم حين احتلم، فاختلطت بترابٍ، فَخُلِقوا من ذلك، وأنهم ليسوا من حواء، فهو قول حكاه الشيخ أبو زكريا النووي (١) في شرح مسلم وغيره، وضَعَّفوه، وهو جدير بذلك، إذ لا دليل عليه، بل هو مخالف لما ذكرناه من أن جميع الناس اليوم من ذرية نوح بنص القرآن.

وهكذا من زعم أنهم على أشكال مختلفة وأطوال متباينة جدًا؛ فمنهم من هو كالنخلة السحوق. ومنهم من هو غاية في القصر. ومنهم من يفترش أذنًا من أذنيه ويتغطى بالأخرى، فكل هذه أقوال بلا دليل ورجم بالغيب بغير برهان (٢).

والصحيح أنهم من بني آدم، وعلى أشكالهم وصفاتهم. وقد قال النبي : "إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعًا … ثمّ لم يزل الخلق ينقص حتى الآن" (٣). وهذا فيصل في هذا الباب وغيره.

وما قيل من أن أحدهم لا يموت حتى يرى من ذريته ألفًا، فإن صَحَّ في خبرٍ قُلنا به، وإلا فلا نردُّه، إذ يحتمله العقل، والنقل أيضًا قد يرشد إليه. والله أعلم. بل قد ورد حديث مصرّح بذلك إن صَحَّ، قال الطبراني: حدّثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصبهاني، حدّثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات، حدّثنا أبو داود الطيالسي، حدّثنا المغيرة، عن مسلم، عن أبي إسحاق، عن وهب بن جابر، عن عبد الله بن عمرو عن النبي قال: "إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أُرْسِلوا لأفسدوا على الناس معايِشَهم، ولن يموتَ منهم رَجُلٌ إلّا تَرَكَ من ذُرّيته ألفًا فصاعدًا، وإن من ورائهم ثلاثَ أُمَم: تاويل وتاريس ومنسك". وهو حديث غريب جدًا وإسناده ضعيف. وفيه نكارة شديدة.

وأما الحديث الذي ذكره ابن جرير في "تاريخه" (٤) أن رسول الله ذهب إليهم ليلة الإسراء فدعاهم إلى الله فامتنعوا من إجابته ومتابعته، وأنه دعا تلك الأمم التي هناك (تارس وتاويل ومنسك) فأجابوه فهو حديث موضوع، اختلقه أبو نعيم عمر بن الصبح (٥) أحد الكذَّابين الكبار الذين اعترفوا بوضع الحديث. والله أعلم.


(١) نقله أيضًا ابن حجر في فتح الباري: ٦/ ٣٨٦.
والنووي: هو يحيى بن شرف بن مري بن حسن الحزامي النووي الحوراني، توفي سنة (٦٧٦ هـ) وله مؤلفات كثيرة. منها كتابه: المنهاج في شرح صحيح مسلم. وهو مطبوع.
(٢) تفسير الطبري (١٦/ ١٦).
(٣) الحديث بتمامه في البخاري: رقم (٦٢٢٧) في أول باب الاستئذان، ومسلم (٢٨٤١)، في الجنة، باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير.
(٤) تاريخ الطبري (١/ ٧٠).
(٥) انظر تهذيب التهذيب (٧/ ٤٦٣).