للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد تبدَّلت الدول أطواراً عديدةً، وتغيَّرت البلاد ومن عليها، وذهب أولئك القرن الذين كانوا فيهم، وجاء غيرُهم، وذهبوا وجاء غيرهم، ولهذا لما خرج أحدُهم وهو تيذوسيس (١) فيما قيل، وجاء إلى المدينة متنكراً لئلا يعرفه أحد من قومه فيما يحسبه تنكرت له البلاد واستنكره من يراه من أهلها واستغربوا شكله وصفته ودراهمه، فيقال: إنهم حملوه إلى متولِّيهم وخافوا من أمره أن يكون جاسوساً أو تكون له طوية (٢) يخشون من مضرتها فيقال: إنه هرب منهم. ويقال: بل أخبرهم خبرَه ومن معه وما كان من أمرهم، فانطلقوا معه ليُريهم مكانَهم، فلما قربوا من الكهف دخل إلى إخوانه فأخبرهم حقيقَة أمرهم ومقدار ما رقدوا، فعلموا أن هذا أمرٌ قدَّره الله، فيقال: إنهم استمرُّوا راقدين، ويقال: بل ماتوا بعد ذلك.

وأما أهل البلدة (٣) فيقال: إنهم لم يهتدوا إلى موضعهم من الغار، وعمَّى الله عليهم أمرهم، ويقال: لم يستطيعوا دخوله حِسّاً، ويقال: مهابةً لهم (٤).

واختلفوا في أمرهم: فقائلون يقولون: ﴿ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا﴾ أي: سدُّوا عليهم بابَ الكهف لئلا يخرجوا أو لئلا يصلَ إليهم ما يؤذيهم. وآخرون، وهم الغالبون على أمرهم، قالوا: ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ أي: معبداً يكون مباركاً لمجاورته هؤلاء الصالحين (٥). وهذا كان شائعاً فيمَن كان قبلنا، فأما في شَرْعنا، فقد ثبت في " الصحيحين " عن رسول الله أنه قال: " لَعَنَ اللّهُ اليهودَ والنصارَى اتّخذُوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ " يُحذِّرُ ما فعلوا (٦).

وأما قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا﴾ (فمعنى أعثرنا: أطلعنا على أمرهم الناس. قال كثير من المفسرين: ليعلم الناسُ أن المعاد حقٌّ وأن الساعة


(١) كذا في الأصول. وقد ذكر ابن جرير في تفسيره (١٥/ ١٤٣ و ١٤٤). أن تيذوسيس هو الملك الذي كان حاكماً وقتئذٍ، أما الفتى الذي أرسله أصحابه من الكهف فهو يمينحا. كما ذكر وفي بعض النسخ: يمليخا.
(٢) في ط: صولة. وهو تحريف.
(٣) في ب: القرية.
(٤) تفسير الطبري (١٥/ ١٤٢). وما بعدها.
(٥) أشار الطبري إلى أن قائلي هذا الرأي مختلف فيهم، فقيل: هم المسلمون، وقيل: هم الكفار. تفسيره (١٥/ ١٤٩).
(٦) أخرجه البخاري: برقم (٤٣٥ - ٤٣٧)، في الصلاة، باب (٥٥) (الصلاة في البيعة)، ورقم (١٣٣٠)، في الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، ورقم (١٣٩٠) باب ما جاء في قبر النبي ، من طريق عائشة رضي عنها. ومسلم (٥٣٠) و (٥٣١) في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، وقوله: يحذّر ما فعلوا. ورد في فتح الباري (١/ ٥٣٢) وفيه. وقوله: يحذر ما صنعوا جملة أخرى مستأنفة من كلام الراوي، كأنه سئل عن حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت فأجيب بذلك.