للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تأكلُ مِنه أنْعَامُهُمْ وأنْفُسُهمْ، وَترجِعُ إليهم مواشيهم سِمانًا لُبْنًا، ومَنْ لَا يستجِيبُ لَهُ، وَيَردّ عليه أمْرَهُ تُصيِبُهم السَّنَةُ والجَدْبُ، والقَحْطُ، والغُلَّةُ، و [مَوْتُ] الأنعام، وَنَقصُ الأموال والأنفس والثَّمرات، وأنه يَتْبَعهُ كنُوز الأرض كيَعَاسِيب النّحْلِ، وأنه يَقْتلُ ذَلِك الشَّابّ، ثم يحييه، وهذا كلُّه ليس بمَخْرقَةٍ، بل له حقيقة امْتحَنَ اللَّهُ بِها عِبَادَه، في ذلك الزمان، فيُضِلّ به كثيرًا، ويَهْدِي به كثيرًا، يَكْفر المرتابون، ويزْدَادُ الذين آمنوا إيمانًا، وقد حمل القاضي عياضٌ وغيرُه على هذا المعنى معنى الحديث: "هو أهْوَنُ على اللَّه من ذلك"، أي هو أقلّ من أن يكون معه ما يُضِلّ به عباده المؤمنينِ، وما ذاك إلا لأنه ناقص، ظاهر النقص، والفجور، والظلم، وإن كان معه ما معه من الخوارق، فبينَ عينيه مكتوب: كافر، كتابةً ظاهرةً، وقد حقق ذلك الشارع في خبره بقوله: ك ف ر، فدلَّ ذلك على أنه كتابةٌ حِسية، لا معنوية، كما يقوله بعضُ الناس، وعينهُ الواحدةُ عوراءُ، شَنِيعَةُ المَنْظَرِ، ناتئة، وهو معنى قوله: "كأنّها عِنَبَةٌ طافِيَةٌ" أي على وجه الماء، ومن روى ذلك "طافئة": فمعناه لا ضوء فيها، وفي الحديث الآخر: "كأنّها نُخَامةٌ على حائط مُجَصّص"، أي بَشِعَةُ الشَّكْلِ.

وقد روي في بعض الأحاديث: أن عينه اليُمنى عوراء، وجاء في بعضها: اليُسرى، فإما أن تكون إحدى الروايتين غير محفوظة، أو أنّ العَوَر حاصلٌ في كل من العَيْنَيْنِ، ويكون معنى العَوَرِ النقصُ، والعَيْبُ، ويُقوي هذا الجواب ما رواه الطبراني: حدّثنا محمد بن محمد بن التمار، وأبو خليفة، قالا: حدثنا أبو الوليد، حدثنا زائدة، حدثنا سِمَاكٌ، عن عكْرمَة، عن ابن عبّاس، قال: قال رسول اللَّه : "الدجّال جَعْدٌ، هِجَانٌ، أقْمَرُ، كأن رأسه غُصْن شَجَرةٍ، مَطْمُوسُ عَينه اليُسْرَى، والأخرى كأنها عِنَبةٌ طَافِيَةٌ. . . " الحديث، وكذلك رواه سُفيان الثوريّ، عن سِماكٍ بنحوه (١).

لكن قد جاء في الحديث المتقدّم: "وعينُه الأخرى كأنّها كوكب دُرّيّ":

وعلى هذا فتكون الرواية الواحدة غَلَطًا، ويحتمل أن يكون المرادُ: أن العين الواحدةَ عَوْراء في نفسها، والأخرى: عوراءُ باعتبار انفرادها، واللَّه أعلم بالصواب.

وقد سأل سائل سؤالًا، فقال: ما الحكمة في أن الدجّال مع كثرة شَرّه وفجُوره، وانتشار أمره، ودعواه الربوبية، وهو في ذلك ظاهر الكذب، والافتراء، وقد حذّر منه جميعُ الأنبياء، كيف لم يُذكر في القرآن ويُحَذَّر منه، ويُصَرَّح باسمه، ويُنَوَّه بكَذِبه، وعِنَادِه؟ فالجواب من وجوه:

أحدها: أنه قد أشير إلي ذِكره في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا. . .﴾ الآية [الأنعام: ١٥٨]، قال أبو عيسى الترمذيّ عند تفسيرها: حدّثنا عبدُ بنُ حُمَيْد، حدثنا يَعْلَى بنُ عُبَيْد، عن فُضَيْل بن غَزْوانَ، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن


(١) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (١١٧١٢) و (١١٧١٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>