للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي " الصَّحيحينِ "، منْ حَديث عَطاء بنِ يَسَارٍ، عنْ أبي سَعيدٍ، قال: قال رسول الله : " تَكونُ الأرْضُ يَوْمَ القِيَامةِ خُبزةً واحِدَة، يَتكفَّؤُها [الْجَبَّارُ] بيدِهِ، كما يَتكفَّأ أحَدُكُمْ خُبزَتَهُ في السَّفَرِ، نُزلًا لأهْل الْجَنَّةِ " فأتى رَجُلٌ منَ اليَهُودِ فقالَ: بَارَكَ الرَّحْمنُ عَلَيْكَ يا أبا القَاسم، ألا أُخْبِركَ بنزُلِ أهْلِ الْجَنَّةِ يومَ القيَامةِ؟ قالَ: " بلَى" قالَ: تكُونُ الأرْضُ خُبزةً واحدَةً يَومَ القِيَامةِ، ثمَّ قالَ: ألا أُخْبرُكَ بإدَامهمْ؟ قالَ: " بَلى " قالَ: إدَامُهُمْ بالامُ، ونُونٌ، قالَ ": " ومَا هَذَا؟ " قالَ: ثوْرٌ ونُون، يَأكلُ منْ زَائدةِ كَبِدِهِما سَبْعُونَ ألفًا (١).

وقال الأعمشُ، عنْ عَبْد اللّهِ بن مُرّة، عن مَسْرُوقٍ، عنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، في قوله تعالى: ﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ [المطففين: ٢٥ - ٢٦]، قال: الرَّحيقُ: الْخَمْرُ، ﴿مَخْتُومٍ﴾ يَجِدُونَ عَاقبتَها رِيحَ المِسْكِ (٢).

وقال سُفْيَانُ، عنْ عَطاء بنِ السَّائب، عن سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عنِ ابْنِ عَبَّاسِ في قوله ﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ﴾ [المطففين: ٢٧] قال: التسنيم: أشْرَفُ شَرَابِ أهْلِ الْجَنَّةِ، يَشْرَبُهُ الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، ويُمْزَجُ منه لأصحاب اليمين.

قلت: وقدْ وصَفَ اللّهُ خَمْر الْجنَّةِ بصفاتٍ جَمِيلةٍ حَسَنة لَيْسَتْ في خُمُور الدُّنيا القَذِرة، فذَكَر أنَّها أنْهارٌ جَاريةٌ كما قال تعالى: ﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ [محمد: ١٥] فهي أنْهارٌ جَاريَةٌ مُسْتَمدَّةٌ منْ عُيُونٍ تَنْبُعُ منْ تَحْتِ جبال المِسْكِ، ولَيْسَتْ مُعْتَصرةً بأرْجل الرِّجَالِ الأراذِل في أسْوَأ الأحْوالِ، وَذَكرَ أنّها لَذّةٌ لِلشّاربينَ، وليست كخَمْر الدُّنْيَا منْ كراهَةِ الطَّعم، وَسُوء الفِعْلِ في العَقْلِ، ومَغْصِ البَطْنِ، وَصُداعِ الرَّأْسِ، فقَدْ نزَّه الله تعالى أهل الجَنَّةِ عنْ ذلِكَ كُلَهِ، ونزه خمرها أن يكون فيه شيء من ذلك، كما قال تعالى: ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ﴾ [الصافات: ٤٥ - ٤٧] ﴿بَيْضَاءَ﴾ أيْ حَسَنةِ الْمَنْظَر ﴿لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾، طَيِّبة الطعْمِ ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ﴾ والغَوْل وَجَعُ البَطْنِ، ﴿وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ﴾ أي لا تُذْهِبُ عُقُولَهُمْ، وذَلِكَ أن الْمَقْصُودَ منَ الخَمْر إنما هُوَ اللَّذةُ المُطْرِبةُ، وَهيَ الْحالةُ المُبْهِجةُ الّتي يَحْصُل بهَا سرُورُ النَّفْسِ، وهَذَا حَاصلٌ في خَمر الجَنَّةِ، فأمَّا ذَهابُ العَقْل بِحَيْثُ يَبْقَى شَاربُهَا كالحَيَوانِ والمجنون، فهَذا نَقْصٌ، إنمَا يَنْشأُ عنْ خَمْرِ الدُّنْيا، فأمَّا خَمْرُ الْجَنّةِ، فَلا تُحْدِثُ لشاربها شيئًا من هذا وإنّمَا تُحدث السُّرُور وَالابْتِهاج، ولهذا قال تعالى: ﴿لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ﴾ أيْ تُنْزَفُ عُقُولهُمْ، فتَذْهَبُ بالْكُلِّيةِ بسبب شُرْبِها.

وقال في الآية الأخرى: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا


(١) رواه البخاري رقم (٦٥٢٠) ومسلم رقم (٢٧٩٢).
(٢) رواه البيهقي في " البعث والنشور " (٣٦١).

<<  <  ج: ص:  >  >>