للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وانتشرت في بلادها. فلما أصبح كِسْرى أفزعَهُ ذلك، فتصبَّر عليه تشجُّعًا، ثم رأى أنه لا يدَّخِرُ ذلك عن مرازبته؛ فجمعهم ولَبِس تاجَهُ وجلس على سريره، ثم بعث إليهم؛ فلمَّا اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيما (١) بعثتُ إليكم؟ قالوا: لا، إلا أن يُخبِرَنا الملك. فبينما هم كذلك إذْ ورد عليهم كتابٌ بخُمودِ النيران، فازداد غمًّا إلى غمِّه، ثم أخبرهم بما رأى وما هاله، فقال المُوبَذَان: وأنا -أصلح الله الملك- قد رأيتُ في هذه الليلة رؤيا. ثم قصَّ عليه رؤياه في الإبل، فقال: أيُّ شيءٍ يكونُ هذا يا مُوبَذان؟ قال: حَدثٌ يكون في ناحية العرب -وكان أعلمَهم في أنفسهم- فكتب عند ذلك:

من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر؛ أمَّا بعد، فوجِّه إليَّ برجلٍ عالمٍ بما أريدُ أنْ أسألَه عنه.

فوجَّه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حَيَّان بن بُقَيْلة (٢) الغسَّاني؛ فلما ورد عليه قال له: ألك علمٌ بما أريد أن أسألك عنه؟ فقال: لتخبرني، أو ليسألني الملكُ عمَّا أحب، فإنْ كان عندي منه علم، وإلا أخبرتُه بمن يعلمه. فأخبره بالذي وجَّه به إليه فيه؛ قال: علم ذلك عند خالٍ لي يسكنُ مشارفَ الشام يقال له: سَطِيح، قال: فأتِهِ فاسألْهُ عما سألتُكَ عنه، ثم أنبِئْني بتفسيره. فخرج عبدُ المسيح، حتى انتهى إلى سَطِيح، وقد أشفى على الضَّريح، فسلَّم عليه وكلَّمه، فلم يردَّ إليه سَطِيحٌ جوابًا، فأنشأ يقول: [من الرجز]

أصَمُّ أم يسمعُ غِطْريفُ اليمن (٣)

أمْ فازَ فازْلَمَّ بِهِ شَأْوُ العَنَنْ (٤)

يا فاصِلَ الخُطَّةِ أعيَتْ مَنْ ومَنْ (٥)

أتاكَ شيخُ الحيِّ من آلِ سَننْ

وأُمُّهُ من آلِ ذِئبِ بْنِ حَجَنْ

أزرَقُ مَهْمُ النابِ صرَّارُ الأذُن (٦)


(١) كذا في ح بإثبات ألف ما، وإثباتها قليل شاذ. انظر الخزانة (٦/ ٩٩) وما بعدها بتحقيق هارون.
(٢) في ح، ط: نفيلة، وفي الهواتف: حنان بن نفيلة، وكلاهما تصحيف، والمثبت من الإكمال (١/ ٣٤٧) وتاريخ ابن عساكر واللباب (١/ ١٦٧).
(٣) "الغطريف": السيد.
(٤) فاز: هلك، ويروى فاد، وهو بمعناه. ازلمَّ: من ازلأمَّ، وازلامَّ بالمد: إذا ولَّى مسرعًا. والشأو: الغاية والسبق. والعنن: الموت. ومعنى "ازلم به شاو العنن": ذهب به غايةُ الموت وسَبْقُه ذهابًا سريعًا. منال الطالب (١/ ١٣٧). والبيت في اللسان (زلم).
(٥) "الفاصل": الحاكم المبيِّن. الخُطَّة: الحالة والقضية. قوله: أعيت من ومن: أي إن هذه الخطة لصعوبتها أعجزت كل من جلَّ قدره في حلمه وحكمته، فحذف الصلة التي لمن ومن، كما حذفت في قولهم: بعد اللتيا والتي. منال الطالب (١/ ١٣٨).
(٦) "الأزرق": أراد به النمر لزرقة عينيه. مَهْم الناب: محدَّده، ويروى: مهو ولا ممهى ومهمى وكلها بمعنى،