للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقرأتُها، ثم انتهى وانصرف عني وهببتُ من نَوْمي فكأنما كتب في قلبي كتابًا (١). قال فخرجتُ حتى إذا كنتُ في وسطٍ من الجبل، سمعتُ صوتًا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسولُ اللَّه وأنا جبريل. قال: فرفعتُ رأسي إلى السماء، فأنظر (٢)، فإذا جبريلُ في صورةِ رجلٍ صافٍّ قدمَيْه في أُفقِ السماء يقول: يا محمد أنت رسولُ اللَّه وأنا جبريل. فوقفت أنظر إليه. فما أتقدَّم وما أتأخر، وجعلتُ أصرِف وجهي عنه في آفاق السماء. فما أنظر في ناحيةٍ منها إلا رأيتُه كذلك، فما زلتُ واقفًا ما أتقدَّم أمامي وما أرجعُ ورائي حتَّى بعثَتْ خديجةُ رُسلَهَا في طلبي، فبلغوا [أعلى] (٣) مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك؛ ثم انصرف عني.

وانصرفتُ راجعًا إلى أهلي حتى أتيتُ خديجة فجلستُ إلى فَخذها مُضيفًا إليها (٤) فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثتُ رُسلي في طلبك، حتى بلغوا مكة ورجعوا إليّ. ثم حدثتها بالذي رأيت، فقالت: أبشِرْ يا ابن العم واثْبُتْ، فوالذي نفسُ خديجةَ بيده، إني لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمة.

ثم قامتْ فجمعتْ عليها ثيابها، ثم انطلقتْ إلى ورقةَ بنِ نوفل، فأخبرتْهُ بما أخبرها به رسولُ اللَّه فقال ورقة: قُدُّوس قدُّوس، والذي نفسُ ورقةَ بيدِه، لئن كنتِ صدقْتِني يا خديجة، لقد جاءه الناموسُ الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنَّه لنبيُّ هذه الأمة، وقولي له فَلْيَثْبُتْ.

فرجعتْ خديجةُ إلى رسولِ اللَّه فأخبرتْه بقولِ ورقة، فلما قضى رسولُ الله جِوارَهُ وانصرف صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبةِ فطاف بها، فلَقِيَهُ ورقةُ بن نوفل وهو يطوفُ بالكعبةِ، فقال: يا ابنَ أخي، أخبرني بما رأيتَ وسمعت. فأخبره، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده، إنَّكَ لنبيُّ هذه الأمة، ولقد جاءك الناموسُ الأكبرُ الذي جاء موسى، ولتكذَّبَنَهْ، ولتؤذَينَّهْ، ولتخرجَنَّهْ، ولتقاتَلنَّهْ، ولئن أنا أدركتُ ذلك اليوم لأنصرَنَّ الله نصرًا يعلمه. ثم أدنى رأسَهُ منه فقبَّل يا فُوخَه (٥)، ثم انصرف رسول الله إلى منزله.

وهذا الذي ذكره عُبيد بن عُمير كما ذكرناه كالتوطئة لما جاء بعدَهُ من اليقظة كما تقدم من قولِ عائشة : فكان لا يرى رؤيا إلا جاءتْ مثلَ فَلَقِ الصُّبْح (٦). ويحتمل أنَّ هذا المنام كان بعدَ ما رآه


(١) انظر ما تقدم (ص ١٨٩) والروض للسهيلي (١/ ٢٦٨/ ٢٦٩).
(٢) في السيرة والروض: أنظر وهو أشبه.
(٣) ما بين معقوفين من السيرة والروض.
(٤) مضيفًا إليها: من أضاف إليه: إذا مال ودنا. التاج (ضيف) راجع الخشني.
(٥) "اليافوخ": الموضع الذي يتحرك من رأس الطفل أو الليِّن منه قبل أن يتلاقى العظمان، معنى وسط الرأس. التاج (أفخ) وقال السهيلي في الروض (١/ ٢٧٤): لا يقال في رأس الطفل يافوخ حتى يشتد وإنما يقال له الغاذية.
(٦) انظر ما تقدم (ص ١٨٩).