للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قد بَدَا لعمِّهِ فيه بَدْوٌ (١)، وأنَّه خاذله ومُسْلِمُه، وأنَّه قد ضعُف عن نصرته والقيام معه، قال: فقال له رسول الله : "يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري (٢) على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركتُه" قال: ثم استعبر رسولُ الله فبكى ثم قام، فلما ولَّى ناداه أبو طالب. فقال: أقْبِلْ يا بن أخي، فأقبل عليه رسول الله فقال: اذهب يا بن أخي، فقلْ ما أحببت، فوالله لا أسلمتُك لشيءٍ أبدًا.

قال ابن إسحاق (٣): ثم إنَّ قريشًا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبَى خِذْلانَ رسولِ الله وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوته، مشَوْا إليه بعُمارة بنِ الوليد بن المغيرة فقالوا له -فيما بلغني-: يا أبا طالب، هذا عُمارة بن الوليد أنهد (٤) فتًى في قريش وأجمله، فخُذْهُ فلك عَقْلُه ونَصْرُه، واتخذْه ولدًا فهو لك، وأسْلِمْ إلينا ابنَ أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودينَ آبائك، وفرَّق جماعة قومِك، وسفَّه أحلامنا فنقتله، فإنما هو رجلٌ برجل! قال: والله لبئس ما تسومونني؟ أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأُعطيكم ابني فتقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدًا. قال فقال المُطْعِمُ بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومُك وجهِدوا على التخلُّص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا؟ فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنَّك قد أجمعتَ خِذْلاني ومظاهرةَ القوم عليّ، فاصنَعْ ما بدا لك -أو كما قال- فحقب الأمر (٥)، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادَى (٦) بعضُهم بعضًا. فقال أبو طالب عند ذلك يعرِّضُ بالمُطعِمِ بن عديّ ويعمُّ مَنْ خذله من بني عبد مناف ومَنْ عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم (٧): [من الطويل]


(١) كذا في ح، ط وفي مصادر الخبر "بَدَآء" يقال: بدا له في الأمر، بَدْوًا وبدًا وبداءً: أي تغيَّر له من أمره، أي ظهر له رأي. انظر اللسان (بدو) والروض (٢/ ٨).
(٢) قال السهيلي في الروض (٢/ ٨): خصَّ الشمس باليمين لأنها الآية المبصرة وخصَّ القمر بالشمال لأنها الآية الممحوَّة، وقد قال عمر لرجل قال له: إني رأيت في المنام كأن الشمس والقمر يقتتلان، ومع كل واحد منهما نجوم. فقال عمر: مع أيهما كنت؟ فقال: مع القمر. قال: كنت مع الآية الممحوة، اذهب فلا تعمل لي عملًا. وكان عاملًا له فعزله، فقتل الرجل في صفين مع معاوية واسمه حابس بن سعد. وخصَّ رسول الله النيرين حين ضرب المثل بهما، لأن نورهما محسوس والنور الذي جاء به من عند الله -وهو الذي أرادوه على تركه- هو لا محالة أشرف من النور المخلوق، قال الله سبحانه: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ﴾ فاقتضت بلاغة النبوة لما أرادوه على ترك النور الأعلى أن يقابله بالنور الأدنى، وأن يخص أعلى النيرين، وهي الآية المبصرة بأشرف اليدين، وهي اليمين، بلاغة لا مثلها، وحكمة لا يجهل اللبيب فضلها. اهـ.
(٣) سيرة ابن إسحاق (ص ١٥٢) وسيرة ابن هشام (١/ ٢٦٦) والروض (٢/ ٥).
(٤) في ح: أبهى. ومعنى أنهد، أي: أقوى وأجلد. الروض (٢/ ٨).
(٥) "حقب الأمر": يريد اشتد. الروض (٢/ ٩).
(٦) في ح، ط: نادى بالنون، والمثبت من مصادر الخبر.
(٧) القصيدة في ديوان شيخ الأباطح (ص ٢١ - ٢٣) على خلاف في بعض ألفاظها وأبياتها ومطلعها: =