للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان من أحبِّ ما يُهْدُون إليه من مكة الأدَم -وذكر موسى بن عُقبة أنَّهم أهدَوْا إليه فرسًا وجُبَّةَ ديباج- فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له: أيها الملك، إنَّ فتية منا سفهاء فارقوا دينَ قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدينٍ مبتدَعٍ لا نعرفُه، وقد لجؤوا إلى بلادك، فبَعَثَنا إليك فيهم عشائرُهم، آباؤهم وأعمامُهم وقومُهم لتردَّهم عليهم، فإنهم أعْلَى بهم عينًا (١)، [فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك، لو رددتهم عليهم كانوا هم أعلى بهم عينًا] (٢)، فإنهم لن (٣) يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك. فغضب ثم قال: لا لعمر الله، لا أردُّهم عليهم حتى أدعوَهم، فأكلمهم وأنظر ما أمْرُهم، قوم لجؤوا إلى بلادي، واختاروا جِوَاري على جوار غيري، فإنْ كانوا كما يقولون رددتُهم عليهم، وإنْ كانوا على غير ذلك منعتُهم ولم أدخلْ بينهم وبينهم، ولم أنعم عينًا.

[وذكر موسى بن عقبة أنَّ أمراءَه أشاروا عليه بأن يردَّهم إليهم. فقال: لا والله! حتى أسمع كلامهم، وأعلم على أيِّ شيءٍ هم عليه؟ فلما دخلوا عليه سلَّموا ولم يسجدوا له، فقال: أيُّها الرَّهْط، ألا تحدِّثوني، ما لكم لا تحيُّوني كما يُحَيِّيني مَنْ أتانا من قومكم؟! فأخبروني ماذا تقولونَ في عيسى وما دينكم؟ أنَصَارَى أنتم؟ قالوا: لا. قال: أفيهودُ أنتم؟ قالوا: لا. قال: فعلى دينِ قومكم؟ قالوا: لا. قال: فما دينُكم؟ قالوا: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قالوا: نعبدُ الله لا نشركُ به شيئًا. قال: مَنْ جاءكم بهذا؟ قالوا: جاءنا به رجلٌ من أنفسنا، قد عرفْنا وجهه ونسَبَه، بعثه الله إلينا كما بعث الرُّسلَ إلى مَنْ قبلنا، فأمَرَنا بالبِرِّ والصدَقة، والوفاء، وأداءِ الأمانة. ونهانا أن نعبدَ الأوثان، وأمَرَنا بعبادةِ الله وَحْدَه لا شريك له، فصدَّقْناه، وعرَفْنا كلامَ الله، وعلمنا أنَّ الذي جاءَ به من عند الله، فلما فعلنا ذلك عادانا قومُنا، وعادوا النبيَّ الصادقَ وكذَّبوه، وأرادوا قتله، وأرادونا على عبادةِ الأوثان، ففرَرْنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا. قال: والله إن هذا لمن المِشْكاة التي خرج منها أمْر موسى. قال جعفر: وأمَّا التحيَّة فإنَّ رسولَ الله أخبرَنا أنَّ تحيَّةَ أهلِ الجنة السلام، وأمَرَنا بذلك فحيَّيْناكَ بالذي يُحَيِّي بعضُنا بعضًا. وأما عيسى ابنُ مريم فعبدُ الله ورسولُه وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وابنُ العذراء البَتُول. فأخَذَ عودًا وقال: والله ما زاد ابنُ مريم على هذا وزن هذا العُود. فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعتِ الحبشةُ لتخلعنَّك. فقال: والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدًا. وما أطاعَ اللهُ الناسَ فيَّ حين ردَّ عليَّ ملكي فأطع (٤) الناسَ في دين الله. معاذ الله من ذلك. وقال يونس عن ابن إسحاق:] (٥).

فأرسل إليهم النجاشيُّ فجمعهم، ولم يكن شيءٌ أبغضَ لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة


(١) "أعلى بهم عينًا": أي أبصرُ بهم وأعلمُ بحالهم. اللسان (علو).
(٢) ما بين معقوفين مستدرك من مصادر الخبر.
(٣) في السير ودلائل البيهقي: لم.
(٤) كذا، والصواب: فأطيع، كما سيأتي (ص ٢٩٥ س ٣).
(٥) هنا تتمة الخبر، وما بين معقوفين ليس في ح ولا في مصادر الخبر المشار إليها في الحاشية (٤) من الصفحة السابقة.