للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الذوائب (١). قال: فأقبل إلينا رسولُ الله يتبسَّم. قال عليّ: فقلت له: يا أبا بكر لقد وقَعْتَ من الأعرابيِّ على باقِعَة (٢). فقال: أجل يا أبا الحسن، إنه ليس من طامَّةٍ إلا وفوقها طامَّة، والبلاءُ مُوَكَّلٌ بالقول (٣).

قال: ثمَّ انتهينا إلى مجلسٍ عليه السَّكينةُ والوقار، وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات، فتقدَّم أبو بكر فسلَّم - قال علي: وكان أبو بكر مقدَّمًا في كلِّ خَيْر - فقال لهم أبو بكر: ممِن القَوْم؟ قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة. فالتفت إلى رسولِ الله فقال: بأبي أنت وأمي، ليس بعد هؤلاء من عِزٍّ في قومهم - وفي رواية: ليس وراء هؤلاء عذر (٤) من قومهم، وهؤلاء [غرر في قومهم، وهؤلاء] (٥) غرر الناس - وكان في القوم مَفروق بن عمرو، وهانئ بن قَبيصة، والمُثَنَّى بن حارثة، والنعمان بن شريك. وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروقُ بن عمرو، وكان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بيانًا ولسانًا (٦)، وكانت له غَدِيرتان تسقطان على صدره؛ فكان أدنى القوم مجلسًا من أبي بكر، فقال له أبو بكر: كيف العددُ فيكم؟ فقال له: إنا لنزيدُ على ألف، ولن يُغلب ألفٌ من قِلَّة. فقال له: فكيف المَنَعَةُ فيكم؟ فقال: علينا الجهد، ولكل قوم جدّ. فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوِّكم؟ فقال مفروق: إنا أشد ما نكونُ غضبًا حين نُلْقَى (٧)، وأشد ما نكونُ لقاءً حين نغضب، وإنَّا لنؤثرُ الجيادَ جملى الأولاد، والسلاحَ على اللِّقاح، والنصرُ من عند الله، يديلُنا مرَّة، ويُديل علينا (٨). لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إنْ كان بلغكم أنَّه رسول الله فها هو ذا. فقال مفروق: قد بَلَغنا أنه يذكر ذلك، ثم التفت إلى رسول الله فقال: إلى ما تدعو يا أخا قريش؟ فتقدَّم رسولُ الله فجلس، وقام أبو بكرٍ يُظِلُّه بثوبه، فقال : "أدعوكم إلى شهادةِ أنْ لا إله إلا الله وحدَهُ لا شَريكَ له وأنِّي رسولُ الله، وأن تؤووني وتمنعوني وتنصروني، حتى أؤديَ عن الله الذي أمرني به، فإنَّ قريشًا قد تظاهرتْ على أمْرِ الله، وكذبتْ رسولَه، واستغنَتْ بالباطل عن الحق، والله هو الغنيُّ الحميد". قال له: وإلى ما تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فتلا رسولُ الله : ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ إلى قوله ﴿ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الأنعام: ١٣١ - ١٥٣] فقال له مفروق: وإلى ما تدعو أيضًا يا أخا


(١) أي ليست من أشرافهم: والزَّمَعَة في الأصل: التَّلْعَة الصغيرة، أو هي ما دون مسايل الماء من جانبي الوادي. النهاية لابن الأثير (زمع).
(٢) "الباقعة": الرجل الداهية، والذكي العارف الذي لا يفوته شيء. اللسان (بقع).
(٣) وفي رواية: والبلاء موكَّلٌ بالمنطق. فذهب مثلًا، وأبو بكر أول من قاله، مجمع الأمثال (١/ ١٧).
(٤) كذا في ط وفي ح: غرر. وليس ما بين المعترضتين في الدلائل.
(٥) ما بين المعقوفين ليس في ح.
(٦) في مختصر تاريخ ابن عساكر: جمالًا ولسانًا.
(٧) في ح: نلتقي. والمثبت من الدلائل، وسقطت اللفظة وما قبلها وما بعدها من ط.
(٨) "يديلنا": ينصرنا.