للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قريش؟ فوالله ما هذا من كلام أهلِ الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه، فتلا رسولُ الله ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٩٠] فقال له مفروق: دعوتَ والله يا قرشيّ (١) إلى مكارمِ الأخلاق ومحاسنِ الأعمال، ولقد أفِكَ قومٌ كذَّبوكَ وظاهروا عليك - وكأنَّه أحبَّ أن يشركه في الكلام هانئُ بن قَبيصة فقال -: وهذا هانئُ بن قَبيصة شيخُنا وصاحبُ ديننا.

فقال له هانئ: قد سمعتُ مقالتَك يا أخا قريش، وصدَّقْتُ قولك، وإني أرى أنَّ ترْكَنَا ديننا واتَّباعَنا إيَّاك على دينِك لمجلسٍ جلستَهُ إلينا ليس له أولٌ ولا آخر، لم نتفكَّرْ في أمرك، وننظر في عاقبة ما تدعو إليه زلَّةٌ في الرأي، وطَيْشةٌ في العقل، وقلَّة نظرٍ في العاقبة، وإنما تكونُ الزَّلَّةُ مع العَجَلة، وإن من ورائنا قومًا نكرَهُ أن نعقِد عليهم عَقْدًا؛ ولكنْ ترجع ونرجع، وتنظر وننظر - وكأنَّه أحبَّ أن يشركه في الكلام المثنَّى بنُ حارثة فقال -: وهذا المثنَّى شيخُنا وصاحبُ حَرْبنا.

فقال المثنى: قد سمعتُ مقالتَك واستحسنتُ قولَك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلَّمتَ به. والجوابُ هو جوابُ هانئ بن قَبيصة، وترْكنا دينَنا واتِّباعنا إياك على ديننا لمجلسٍ جلستَهُ إلينا، وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَيْن (٢) أحدُهما اليمامة، والآخر السماوة (٣). فقال له رسول الله : "وما هذان الصَّرَيَان"؟ فقال له: أما أحدُهما فطُفُوف (٤) البَرَّ وأرضُ العرب، وأما الآخر فأرضُ فارس وأنهارُ كسرى وإنما نزلنا على عهدٍ أخذه علينا كسرى أن لا نحدثَ حدَثًا، ولا نُؤْوي مُحدِثًا. ولعلَّ هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك؛ فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنبُ صاحبه مغفور، وعُذرُه مقبول، وأما ما كان يلي بلادَ فارس، فذنبُ صاحبِه غيرُ مغفور، وعذرُهُ غيرُ مقبول؛ فإن أردت أن ننصرَك ونمنعك مما يلي العرب فعلْنا. فقال رسول الله : "ما أسأتُمُ الرَّدّ، إذْ أفصحتُمْ بالصدق، إنه لا يقوم بدين الله إلا مَنْ حاطَهُ من جميع جوانبه". ثم قال رسولُ الله : ("أرأيتُمْ إنْ لم تَلْبَثُوا إلا يسيرًا حتى يمنحَكم اللهُ بلادَهم وأموالهم ويفرشَكُم بناتِهم، أتسبِّحون الله وتقدَّسونه؟ " فقال له النعمان بن شريك: اللهمَّ وإن ذلك لك يا أخا قريش! فتلا رسولُ الله ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٥ - ٤٦] ثم نهض رسولُ الله قابضًا على يد أبي بكر. قال علي: ثم التفتَ إلينا رسولُ الله فقال: يا علي أيَّةُ أخلاقٍ للعربِ كانت في الجاهليَّة؟ ما أشرفها! بها يتحاجَزَون فيما بينهم في الحياة الدنيا".


(١) في ط: يا أخا قريش، والمثبت من ح والدلائل.
(٢) "الصَّرَيان": تثنية صَرًى وهو الماء المجتمع الذي يحضره الناس. ورواية ح: صِيرَيْن تثنية صِير، وهو بمعناه وبهما وردت الرواية في النهاية لابن الأثير (صير، صري) ووقع في رواية ابن منظور في مختصر ابن عساكر: ضرَّتين.
(٣) في النهاية لابن الأثير: اليمامة والسمامة. وفي مختصر ابن منظور: الشأْمة.
(٤) "الطُّفوف": جمع طَفّ، وهو ساحل البحر وجانب البَرّ. النهاية لابن الأثير (طفف).