للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

آتٍ، فقال: إنّ رسول اللَّه قد أنزل عليه الليلة قرآنَ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.

وفي "صحيح مسلم" (١)، عن أنس بن مالك نحو ذلك.

والمقصود أنّه لمّا نزل تحويل القبلة إلى الكعبة ونسخ به اللَّه تعالى حكم الصلاة إلى بيت المقدس، طعن طاعنون من السفهاء والجهلة الأغبياء، وقالوا: ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها. هذا والكفرة من أهل الكتاب يعلمون أنّ ذلك من اللَّه؛ لما يجدونه من صفة محمد في كتبهم؛ من أنّ المدينة مهاجره، وأنّه سيؤمر بالاستقبال إلى الكعبة كما قال (٢): ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ الآية [البقرة: ١٤٤]. وقد أجابهم اللَّه تعالى مع هذا كلّه عن سؤالهم، وتعنّتهم، فقاك (٣): ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ١٤٢] أي؛ هو المالك المتصرّف الحاكم الذي لا معقّب لحكمه، الذي يفعل ما يشاء في خلقه، ويحكم ما يريد في شرعه، وهو الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ويضلّ من يشاء عن الطريق القويم، وله في ذلك الحكمة التي يجب لها الرِّضا والتَّسليم.

ثم قال تعالى (٤): ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ أي؛ خيارًا ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣] أي: وكما اخترنا لكم أفضل الجهات في صلاتكم، وهديناكم إلى قبلة أبيكم إبراهيم والد الأنبياء بعد التي كان يصلِّي بها موسى فمن قبله من المرسلين، كذلك جعلناكم خيار الأمم، وخلاصة العالم، وأشرف الطَّوائف، وأكرم التَّالد والطَّارف (٥)؛ لتكونوا يوم القيامة شهداء على الناس؛ لإجماعهم عليكم دماشارتهم يومئذ بالفضيلة إليكم، كما ثبت في "صحيح البخاريّ" (٦)، عن أبي سعيد مرفوعًا مِن استشهاد نوح بهذه الأمّة يوم القيامة. وإذا استشهد بهم نوح مع تقدّم زمانه، فمن بعده بطريق الأولى والأحرى.

ثم قال تعالى مبينًا حكمته في حلول نقمته بمن شكّ وارتاب بهذه الواقعة، وحلول نعمته على من صدّق وتابع هذه الكائنة، فقال (٧): ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾.


(١) رواه مسلم رقم (٥٢٧).
(٢) انظر "تفسير ابن كثير" (١/ ٢٨٠).
(٣) انظر "تفسير ابن كثير" (١/ ٢٧٤ - ٢٧٥).
(٤) انظر "تفسير ابن كثير" (١/ ٢٧٥ - ٢٧٦).
(٥) التالد والطارف: القديم والحديث من المال.
(٦) رواه "البخاري" (٣٣٣٩).
(٧) انظر "تفسير ابن كثير" (١/ ٢٧٧ - ٢٧٨).