للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أسمع؛ صوت ضمضم بن عمرو الغفاريّ وهو يصرخ ببطن الوادي، واقفًا على بعيره، قد جدع بعيره، وحوّل رحله، وشقّ قميصه، وهو يقول: يا معشر قريشٍ، اللّطيمة اللّطيمة (١)، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمدٌ في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث. قال: فشغلني عنه وشغله عنّي ما جاء من الأمر، فتجهّز الناس سراعًا وقالوا: أيظنّ محمدٌ وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرميّ؟! واللَّه ليعلمنّ غير ذلك.

وذكر موسى بن عقبة (٢) رؤيا عاتكة، كنحوٍ من سياق ابن إسحاق. قال (٣): فلمّا جاء ضمضم بن عمروٍ على تلك الصّفة، خافوا من رؤيا عاتكة، فخرجوا على الصّعب والذّلول.

قال ابن إسحاق (٤): فكانوا بين رجلين؛ إمّا خارجٍ وإمّا باعثٍ مكانه رجلًا، وأوعبت قريشٌ (٥)، فلم يتخلّف من أشرافها أحدٌ، إلّا أنّ أبا لهب بن عبد المطّلب بعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، قد أفلس بها.

قال ابن إسحاق (٦): وحدّثني ابن أبي نجيحٍ، أنّ أميّة بن خلفٍ كان قد أجمع القعود، وكان شيخًا جليلًا جسيمًا ثقيلًا، فأتاه عقبة بن أبي معيطٍ وهو جالسٌ في المسجد بين ظهراني قومه، بمجمرةٍ يحملها، فيها نارٌ ومجمرٌ (٧)، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا عليٍّ، استجمر، فإنّما أنت من النّساء. قال: قبّحك اللَّه، وقبّح ما جئت به. قال: ثم تجهّز، وخرج مع الناس. هكذا قال ابن إسحاق في هذه القصّة.

وقد رواها البخاريّ (٨) على نحوٍ آخر، فقال: حدّثني أحمد بن عثمان، حدّثنا شريح بن مسلمة، ثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، حدّثني عمرو بن ميمونٍ، أنّه سمع عبد اللَّه بن مسعودٍ حدّث عن سعد بن معاذٍ أنّه كان صديقًا لأميّة بن خلفٍ، وكان أميّة إذا مرّ بالمدينة، نزل على سعد بن معاذٍ، وكان سعدٌ إذا مرّ بمكّة نزل على أميّة، فلمّا قدم رسول اللَّه المدينة، انطلق سعد بن معاذٍ معتمرًا، فنزل على أميّة بمكّة، فقال لأميّة: انظر لي ساعة خلوةٍ؛ لعلّي أطوف بالبيت. فخرج به قريبًا


(١) اللطيمة: الجمال التي تحمل العِطر والبزَّ، غير الميرة. والمعنى أدركوها. انظر "النهاية في غريب الحديث والأثر" (٤/ ٢٥١).
(٢) انظر "دلائل النبوة" للبيهقي (٣/ ١٠٣ - ١٠٤).
(٣) أي موسى بن عقبة. انظر "دلائل النبوة" للبيهقي (٣/ ١٠٥).
(٤) انظر "السيرة النبوية" لابن هشام (١/ ٦٠٩ - ٦١٠).
(٥) أي خرجوا بأجمعهم. انظر "النهاية في غريب الحديث والأثر" (٥/ ٢٠٦).
(٦) انظر "السيرة النبوية" لابن هشام (١/ ٦١٠). قال الحافظ في "فتح الباري" (٧/ ٢٨٤): بيَّن ابن إسحاق -في روايتنا هذه- الصفة التي كاد بها أبو جهل أمية حتى خالف رأي نفسه في ترك الخروج من مكة.
(٧) المجمرة: ما يُوضع فيه الجمر مع البَخُور. والمجمَر: العود يُتبخر به. انظر "لسان العرب" (جمر).
(٨) انظر "صحيح البخاري" (٣٩٥٠).