للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أشراف قريشٍ، ثم رأيته ضرب في لبّة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما بقي خباءٌ من أخبية العسكر إلّا أصابه نضحٌ من دمه. فبلغت أبا جهلٍ، لعنه اللَّه، فقال: هذا أيضًا نبيٌّ آخر من بني المطّلب، سيعلم غدًا من المقتول إن نحن التقينا.

قال ابن إسحاق (١): ولمّا رأى أبو سفيان أنّه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنّكم إنّما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجّاها اللَّه، فارجعوا. فقال أبو جهل بن هشامٍ: واللَّه لا نرجع حتى نرد بدرًا -وكان بدرٌ موسمًا من مواسم العرب، يجتمع لهم به سوقٌ كلّ عامٍ- فنقيم عليه ثلاثًا، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا، فامضوا. وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهبٍ الثّقفيّ، وكان حليفًا لبني زهرة، وهم بالجحفة: يا بني زهرة، قد نجّى اللَّه لكم أموالكم، وخلّص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفلٍ، وإنّما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جُبنها وارجعوا، فإنّه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعةٍ، لا ما يقول هذا. قال: فرجعوا، فلم يشهدها زهريٌّ واحدٌ؛ أطاعوه وكان فيهم مطاعًا، ولم يكن بقي بطنٌ من قريشٍ إلّا وقد نفر منهم ناسٌ، إلّا بني عديٍّ، لم يخرج منهم رجلٌ واحدٌ، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس، فلم يشهد بدرًا من هاتين القبيلتين أحدٌ. قال: ومضى القوم، وكان بين طالب بن أبي طالبٍ -وكان في القوم- وبين بعض قريشٍ محاورةٌ، فقالوا: واللَّه لقد عرفنا يا بني هاشمٍ، وإن خرجتم معنا، أنّ هواكم مع محمدٍ. فرجع طالبٌ إلى مكة مع من رجع، وقال في ذلك: [من الرجز]

لاهُمّ إمّا يغزونّ طالبْ … في عصبةٍ محالفُ (٢) محاربْ

في مِقنبٍ (٣) من هذه المقانبْ … فليكن المسلوب غير السّالبْ

وليكن المغلوب غير الغالبْ

قال ابن إسحاق (٤): ومضت قريشٌ حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي، خلف العقنقل وبطن الوادي، وهو يليل، بين بدرٍ وبين العقنقل، الكثيب الذي خلفه قريشٌ، والقليب ببدرٍ، في العدوة الدّنيا من بطن يليل إلى المدينة.

قلت: وفي هذا قال اللَّه تعالى (٥): ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ أي؛ من ناحية الساحل. ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ


(١) انظر "السيرة النبوية" لابن هشام (١/ ٦١٨ - ٦١٩).
(٢) في (ط): "مخالف".
(٣) المقنب: جماعة الخيل مقدار ثلاثمئة أو نحوها. انظر "شرح غريب السيرة" (٢/ ٣٥).
(٤) انظر "السيرة النبوية" لابن هشام (١/ ٦١٩ - ٦٢٠).
(٥) انظر "تفسير ابن كثير" (٤/ ١٠ - ١٢).