للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقال: عَذِيرك من محارب، ألا أراك قد وضعتَ اللأْمة وما وضعناها بعدُ. قال: فوثب النبي فزعًا، فعزم على الناس أن لا يصلّوا صلاة العصر حتى يأتوا بني قريظة. قال: فلبس الناس السلاح، فلم يأتوا بني قريظة حتى غربت الشمس، فاختصم الناس عند غروب الشمس، فقال بعضهم: إن رسول الله عزم علينا أن لا نصلِّي حتى نأتيَ بني قريظة، فإنما نحن في عزيمة رسول الله ، فليس علينا إثم. وصلى طائفة من الناس احتسابًا، وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس، فصلَّوها حين جاؤوا بني قريظة احتسابًا، فلم يعنف رسول الله واحدًا من الفريقين.

ثم روى البيهقي (١) من طريق عبد الله العمري، عن أخيه عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، أن رسول الله كان عندها، فسلَّم علينا رجل ونحن في البيت، فقام رسول الله فزعًا، وقمت في أثره، فإذا بدِحية الكلبي، فقال: "هذا جبريل، أمرني أن أذهب إلى بني قريظة، وقال: قد وضعتم السلاح، لكنا لم نضع، طلبنا المشركين حتى بلغنا حمراء الأسد". وذلك حين رجع رسول الله من الخندق. فقال رسول الله فزعًا، وقال لأصحابه: "عزمت عليكم أن لا تصلوا صلاة العصر حتى تأتوا بني قريظة". فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، فقالت طائفة من المسلمين: إن رسول الله لم يرد أن تدَعوا الصلاة. فصلّوا. وقالت طائفة: والله إنَّا لفي عزيمة رسول الله ، وما علينا من إثم. فصلت طائفة إيمانًا واحتسابًا، وتركت طائفة إيمانًا واحتسابًا، ولم يعنِّف رسول الله واحدًا من الفريقين، وخرج رسول الله فمر بمجالس بينه وبين بني قريظة، فقال: "هل مرَّ بكم أحد؟ " فقالوا: مرَّ علينا دِحْيَة الكلبي (٢) على بغلة شهباء، تحته قطيفة ديباج. فقال: "ذلك جبريل، أُرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرعب". فحاصرهم النبي ، وأمر أصحابه أن يستروه بالحجف (٣) حتى يسمعهم كلامه، فناداهم: "يا إخوة القردة والخنازير". فقالوا: يا أبا القاسم، لم تكن فحاشًا. فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، وكانوا حلفاءه، فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم. ولهذا الحديث طرق جديدة، عن عائشة وغيرها.

وقد اختلف العلماء في المصيب من الصحابة يومئذ، من هو؟ بل الإجماع على أن كلًّا من الفريقين مأجور ومعذور، غير معنّف؛ فقالت طائفة من العلماء: الذين أخّروا الصلاة عن وقتها المقدّر لها، حتى صلّوها في بني قُريظة، هم المصيبون؛ لأن أمرهم يومئذ بتأخير الصلاة خاصّ، فيقدم على عموم الأمر بها في وقتها المقدر لها شرعًا.


(١) في "دلائل النبوة" (٤/ ٨).
(٢) وذلك لأن جبريل غالبًا ما كان ينزل بصورته . فعن أنس بن مالك أن النبي كان يقول: "يأتيني جبريل في صورة دحية" وانظر "المسند" للإمام أحمد (٢/ ١٠٧) و"مجمع الزوائد" (٩/ ٣٧٨)، و "الإصابة" (٣/ ١٩١).
(٣) الحَجَفُ: جمع حجفة: الترس إذا كان من جلود ليس فيه خشب ولا عقب. انظر "مختار الصحاح" (حجف).