للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد تقدَّم (١) روايةُ الفضل بن موسى لهذا الحديث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد. وروايةُ الإمام (٢) أحمد له عن عفَّان، عن حمَّاد بن سلمة، عن حُمَيْد، عن الحسن، عن رجلٍ. قال حمَّاد: أظنُّه جُنْدُب بن عبد اللَّه البَجَليّ، عن النبي : "لقيَ آدمُ موسى. . . " فذكرَ معناه.

وقد اختلفتْ مسالكُ النَّاس في هذا الحديث؛ فردَّه قومٌ من القدريَّة، لما تضمَّن من إثبات القدر السابق.

واحتجَّ به قومٌ من الجبرية، وهو ظاهر لهم بادئَ الرأي، حيث قال: فحجَّ آدمُ موسى، لمَّا احتجَّ عليه بتقديم كتابه، وسيأتي الجوابُ عن هذا.

وقال آخرون (٣): إنما حجَّه لأنه لامَه على ذَنْبٍ قد تابَ منه، والتَّائبُ من الذنب كمن لا ذَنْبَ له. وقيل: إنما حجَّه لأنه أكبر منه وأقدم. وقيل: لأنه أبوه. وقيل: لأنهما في شريعتين متغايرتين. وقيل: لأنهما في دار البرزخ، وقد انقطعَ التكليف فيما يزعمونه.

والتحقيقُ أنَّ هذا الحديث رُوي بألفاظٍ كثيرةٍ بعضُها مرويٌّ بالمعنى، وفيه نظر. ومدارُ معظمها في الصحيحين وغيرهما على أنَّه لامَه على إخراجه نفسَه وذريَّته من الجنَّةِ، فقال له آدم: أنا لم أخرجْكم، وإنما أخرجَكم الذي رتَّب الإخراج على أكلي من الشجرة، والذي رتَّب ذلك وقدَّره وكتبَه قبلَ أنْ أُخلقَ هو اللَّه ﷿، فأنتَ تلومُني على أمر ليس له نسبة إليّ أكثر ما أنِّي نُهيتُ عن الأكل من الشجرة، فأكلتُ منها، وكون الإخراج مترتبًا على ذلك ليس من فعلي، فأنا لم أخرجْكم ولا نفسي من الجنَّة، وإنما كان هذا من قدرة اللَّه وصُنْعه، وله الحكمةُ في ذلك، فلهذا حجَّ آدمُ موسى.

ومن كذَّب بهذا الحديث فمعاندٌ، لأنه متواترٌ عن أبي هريرة ، وناهيك به عدالةً وحفظًا وإتقانًا. ثم هو مرويٌّ عن غيره من الصحابة كما ذكرنا.

ومن تأوَّله بتلك التأويلات المذكورة آنفًا فهو بعيدٌ من اللفظ والمعنى. وما فيهم منْ هو أقوى مَسْلكًا من الجبريَّة، وفيما قالوه نظر من وجوه:

أحدها: أن موسى لا يلوم على أمر قد تابَ منه فاعلهُ.

الثاني: أنه قد قتلَ نفسًا لم يُؤمر بقتلها، وقد سأل اللَّهَ في ذلك بقوله: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ﴾ [القصص: ١٦] الآية.

الثالث: أنه لو كان الجواب عن اللَّوْم على الذنب بالقدر المتقدم كتابته على العبد، لانفتحَ هذا لكل


(١) تقدم الحديث وتخريجه ص (١٢٨).
(٢) تقدم الحديث وتخريجه ص (١٣٠).
(٣) في هامش "أ": كلام في احتجاج آدم على موسى .