للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أبي زُرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، عن النبيِّ في حديث الشفاعة، قال: "فيأتون آدمَ فيقولون: يا آدمُ أنت أبو البشر، خلقك اللَّه بيده، ونفخَ فيكَ من روحه، وأمرَ الملائكةَ فسجدوا لكَ، وأسكنكَ الجنَّة، ألا تشفعُ لنا إلى ربِّك؟ ألا ترى ما نحنُ فيه وما بَلَغَنا؟ فيقول: ربِّي قد غضبَ غَضَبًا شديدًا لم يغضبْ قبلَه مثلَه، ولا يغضبُ بعدَه مثلَه، ونهاني عن الشجرة، فعصيتُ، نفسي نفسي، اذهبُوا إلى غيري، اذهبُوا إلى نوح. فيأتونَ نوحًا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسمَّاك اللَّه عبدًا شكورًا، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بَلَغَنا، ألا تشفعُ لنا إلى ربِّك ﷿؟ فيقولُ: ربِّي قد غضبَ اليومَ غَضَبًا لم يغضبْ قبلَه مثلَه ولا يغضبُ بعدَه مِثْله، نفسي نفسي". وذكر تمامَ الحديث بطوله، كما أورده البخاريُّ (١) في قصة نوح.

فلما بعثَ اللَّه نوحًا دعاهم إلى إفراد العبادة للَّه وحدَه لا شريكَ له، ألَّا يعبدوا معه صنمًا ولا تمثالًا ولا طاغوتًا، وأن يعترفوا بوحدانيته، وأنَّه لا إلهَ غيره ولا ربَّ سواه، كما أمر اللَّه تعالى من بعده من الرسل الذين هم كلُّهم من ذريَّته، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ [الصافات: ٧٧] وقال فيه وفي إبراهيم: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الحديد: ٢٦] أي: كل نبيّ من بعد نوح فمن ذريته، وكذلك إبراهيم، قال اللَّه تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦] وقال تعالى: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٥] وقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥].

ولهذا قال نوح (٢) لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الأعراف: ٥٩] وقال: ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾ [هود: ٢٦] وقال: ﴿يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ٦٥] وقال: ﴿قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (٦) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (١٢) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾ الآيات الكريمات [نوح: ٢ - ١٤].

فذكرَ أنَّه دعاهم إلى اللَّه بأنواع الدعوة في الليل والنهار والسِّرِّ والإجهار بالترغيب تارةً والترهيب


(١) أخرجه البخاري (٣٣٤٠) في الأنبياء.
(٢) في ب: ولهذا قال نوح : ﴿اعْبُدُوا. . .﴾.