للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أخرى، وكلُّ هذا، فلم ينجحْ فيهم، بل استمرَّ أكثرُهم على الضلالة والطغيان وعبادة الأصنام والأوثان، ونَصَبُوا له العداوةَ في كلِّ وقتٍ وأوان، وتَنقَّصُوه وتنقَّصُوا منْ آمنَ به، وتوعَّدوهم بالرجم والإخراج، ونالوا منهم وبالغوا في أمرهم: ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ﴾ أي: السادة الكبراء منهم ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٦٠) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٦٠ - ٦١] أي: لست كما تزعمونُ من أني ضالٌّ، بل على الهدي المستقيم رسولٌ من رب العالمين، أي: الذي يقول للشيء كن فيكون ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٦٢]. وهذا شأنُ الرسول أن يكونَ بليغًا، أي: فصيحًا ناصحًا، أعلم الناس باللَّه ﷿.

وقالوا له فيما (١) قالوا: ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ [هود: ٢٧] تعجَّبُوا أن يكونَ بشرًا رسولًا، وتنقَّصُوا بمن اتَّبعه، ورأوْهم أراذلَهم. وقد قيل: إنهم كانوا من أفناد (٢) النَّاس وهم ضعفاؤهم، كما قال هرقل: وهم أتباعُ الرسل. وما ذاك إلا لأنه لا مانعَ لهم من اتباع الحقِّ.

وقولهم: ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هود: ٢٧] أي: بمجرد ما دعوتُهم استجابوا لكَ من غير نظر ولا رويَّة، وهذا الذي رموهم به هو عين ما يُمدحون بسببه ، فإن الحقَّ الظاهرَ لا يحتاجُ إلى رويَّةٍ ولا فكر ولا نظر، بل يجبُ اتِّباعه والانقياد له متى ظهرَ.

ولهذا قال رسول اللَّه مادحًا للصدِّيق: "ما دعوتُ أحدًا إلى الإسلام إلا كانت كبوة (٣)، غير أبي بكر فإنه لم يتلعثمْ" (٤) ولهذا كانت بيعتُه يوم السقيفة أيضًا سريعةً، من غير نظرٍ ولا رويَّة، لأن أفضليتَه على من عداه ظاهرةٌ جليَّةٌ عند الصحابة ، ولهذا قال رسول اللَّه لما أراد أن يكتبَ الكتابَ الذي أراد أن ينصَّ فيه على خلافته، فتركَه وقال: "يأبى اللَّه والمؤمنون إلا أبا بكر " (٥).

وقول كَفَرةِ قوم نوحٍ له ولمن آمنَ به: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾ [هود: ٢٧] أي: لم يظهرْ لكم أمر بعد اتصافكم بالإيمان ولا مزيَّة علينا ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (٢٧) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ [هود: ٢٧ - ٢٨].


(١) في ب: مما قالوا.
(٢) أفناد: ضعفاء الرأي من الناس.
(٣) "كبوة": وقفة وتردُّد.
(٤) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (٦٢٨٦) عن ابن مسعود، وذكره رزين كما في جامع الأصول (٨/ ٥٨٥) والشوكاني (ص ١٤٢) في درِّ السحابة، والمتقي الهندي (١١/ ٥٥٥) في كنز العمال.
(٥) أخرجه أحمد في المسند (٦/ ١٠٦) ومسلم في صحيحه (٢٣٨٧) في فضائل الصحابة.