للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولهذا قالوا: ﴿قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ [هود: ٣٢ - ٣٣] أي: إنما يقدر على ذلك اللَّه ﷿، فإنه الذي لا يُعجزه شيءٌ ولا يكترثه أمر، بل هو الذي يقولُ للشيء كن فيكون. ﴿وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [هود: ٣٤] أي: من يُرد اللَّه فتنتَه فلن يملكَ أحدٌ هدايتَه، هو الذي يَهدي منْ يشاءُ ويُضلُّ من يشاء، وهو الفعَّال لما يُريد، وهو العزيز الحكيم، العليمُ بمن يستحقُّ الهداية ومنْ يستحقُّ الغواية، وله الحكمة البالغة والحجَّة الدامغة.

﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (١) [هود: ٣٦] وهذه تعزيةٌ لنوح في قومه أنه لن يؤمنَ منهم إلا منْ قد آمنَ، وتسليةٌ له عما كان منهم إليه ﴿فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ أي: لا يسوأنَّكَ ما جرى فإنَّ النصرَ قريبٌ، والنبأ عجيب ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ [هود: ٣٧]، وذلك أن نوحًا لما يئسَ من صَلاحهم وفَلاحِهم، ورأى أنَّهم لا خيرَ فيهم، وتوصلوا إلى أذيَّته ومخالفتِه وتكذيبه بكلِّ طريق من فعال ومقال، دعا عليهم دعوةَ غضبٍ (٢)، فلبَّى اللَّه دعوتَه، وأجابَ طلبتَه، قال اللَّه تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الصافات: ٧٥ - ٧٦].

وقال تعالى: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنبياء: ٧٦]. وقال تعالى: ﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ١١٧ - ١١٨] وقال تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ [القمر: ١٠] وقال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ﴾ [المؤمنون: ٢٦] وقال تعالى: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (٢٥) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: ٢٥ - ٢٧].

فاجتمعَ عليهم خطاياهم من كفرهم وفجورِهم ودعوة نبيِّهم عليهم، فعند ذلك أمره اللَّه تعالى أن يصنعَ الفلكَ، وهي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظيرٌ قبلَها، ولا يكون بعدَها مثلها.

وقدَّم اللَّه تعالى إليه أنه إذا جاء أمرُه، وحلَّ بهم بأسُه الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، أنه لا يُعاوده فيهم ولا يُراجعه، فإنَّه لعلّه قد تُدركُه رقَّة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم، فإنَّه ليس الخبرُ كالمعاينة، ولهذا قال: ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ


(١) في تفسير هذه الآية تقديم وتأخير وقع في أ والمطبوع، وأثبت ما ورد في ب؛ لأنه أقوم.
(٢) في ب: دعوة غضبٍ للَّه عليهم.