للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

استصحبُوها، واطَّحنُوا الحبوبَ يومئذ، واكتحلوا بالإثمد لتقوية أبصارهم لمَّا انهارتْ من الضِّياء بعد ما كانوا في ظُلْمة السفينة، فكلُّ هذا لا يصحُّ فيه شيء، وإنما يُذكر فيه آثارٌ منقطعة عن بني إسرائيل، لا يُعتمدُ عليها ولا يُقتدى بها، واللَّه أعلم.

وقال محمد بن إسحاق: لما أرادَ اللَّه أن يكفَّ ذلك الطُّوفان أرسلَ ريحًا على وجه الأرض، فسكنَ الماءُ وانسدَّتْ ينابيعُ الأرض، فجعلَ الماء ينقصُ ويغيض ويُدْبرُ، وكان استواءُ الفُلْكِ فيما يزعمُ أهلُ التوراة في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه، وفي أول يوم من الشهر العاشر رُئيَتْ رُؤوس الجبال.

فلما مضى بعد ذلكَ أربعونَ يومًا فتحَ نوحٌ كُوَّةَ الفُلْكِ التي صنعَ فيها، ثم أرسلَ الغُرابَ لينظرَ له ما فعلَ الماء، فلم يرجع إليه، فأرسلَ الحمامةَ فرجعتْ إليه لم يجد لرجلِها موضعًا، فبسط يدَه للحمامة فأخذَها فأدخلَها، ثم مضت سبعة أيام، ثم أرسلها لتنظر له ما فعلَ الماءُ فلم ترجع، فرجعتْ حينَ أمستْ وفي فيها ورقُ زيتونةٍ، فعلمَ نوحٌ أن الماء قد قلَّ عن وجه الأرض، ثم مكثَ سبعة ايام، ثم أرسلَها، فلم ترجع إليه، فعلم نوحٌ أن الأرض قد برزتْ، فلما كملت السنة -فيما بين أنْ أرسلَ اللَّه الطُّوفان إلى أن أرسلَ نوحٌ الحمامةَ- ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنين، برزَ وجهُ الأرضِ، وظهرَ البرُّ، وكشفَ نوحٌ غطاءَ الفلك.

وهذا الذي ذكرَه ابنُ إسحاق هو بعينه مضمونُ سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.

قال ابن إسحاق: وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في ست وعشرين ليلة منه ﴿قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [هود: ٤٨].

وفيما ذكر أهل الكتاب أن اللَّه كلَّم نوحًا قائلًا له: اخرجْ من الفُلْك أنتَ وامرأتك وبنوكَ ونساءُ بنيكَ معكَ، وجميع الدواب التي معك، ولينموا وليكثروا في الأرض، فخرجوا، وابتنى نوحٌ مذبحًا للَّه ﷿، وأخذ من جميع الدوابِّ الحلال والطير الحَلال فذبحها قربانًا إلى اللَّه ﷿، وعَهدَ اللَّه إليه ألا يعيدَ الطوفان على أهل الأرض، وجعلَ تذكارًا لميثاقه إليه القوس الذي في الغمام، وهو قوس قزح الذي قدمنا (١) عن ابن عباس أنه أمان من الغرق. قال بعضهم: فيه إشارة إلى أنه قوسٌ بلا وتر، أي: أن هذا الغمام لا يُوجد منه طوفان كأول مرة.

وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان، واعترف به آخرون منهم وقالوا: إنما كان بأرض بابل ولم يصل إلينا. قالوا: ولم نزل نتوارث الملك كابرًا عن كابرٍ من لدن كنوفرت (٢) -يعني آدم- إلى زماننا هذا. وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عبَّاد النيران وأتباع الشيطان.


(١) كذا في الأصل، وفي المطبوع: روى.
(٢) كذا في الأصل، وفي المطبوع: كيومرث.