للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فعل يوم حُنين، قسم (١) تلك الأموال الجزيلة من الإبل والشاء والذهب والفضة في المؤلفة، ومع هذا لم يُعط الأنصارَ وجمهور المهاجرين شيئًا، بل أنفقَ فيمن كان يحبُّ أن يتألَّفه على الإسلام، وترك أولئك لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، وقال مُسلِّيًا لمن سأل عن وجه الحكمة في هذه القسمة لمن عتَب من جماعة الأنصار: "أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى رِحَالكم؟ " قالوا: رضينا يا رسول الله (٢).

وهكذا أعطى عمَّه العباس بعدما أسلم حين جاءه ذلك المال من البحرين، فوُضع بين يديه في المسجد وجاء العباسُ فقال: يا رسولَ الله أعطني فقد فاديتُ نفسي يوم بدر وفاديتُ عقيلًا، فقال: "خذ" فنزع ثوبَه عنه وجعل يضعُ فيه من ذلك المال، ثم قام ليُقِلَّه فلم يقدر، فقال لرسول الله: ارفعه عليَّ، قال: "لا أفعل" فقال: مر بعضَهم ليرفعَه عليَّ، فقال: "لا" فوضع منه شيئًا، ثم عاد فلم يقدر، فسأله أن يرفعَه أو أن يأمرَ بعضَهم برفعه فلم يفعل، فوضع منه، ثم احتمل الباقي وخرجَ به من المسجد، ورسولُ الله يُتبعه بصرَه عجبًا من حرصه!.

قلت: وقد كان العباسُ رجلًا شديدًا طويلًا نبيلًا، فأقلّ ما احتمل شيء يُقارب أربعين ألفًا، والله أعلم.

وقد ذكره البخاري في "صحيحه" في مواضع معلَّقًا بصيغة الجزم، وهذا يُورد في مناقب العباس؛ لقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنفال: ٧٠]. وقد تقدم عن أنس بن مالك خادمه أنه قال: كان رسول الله أجودَ الناس، وأشجعَ الناس … الحديث (٣). وكيف لا يكون كذلك وهو رسولُ الله المجبول على أكمل الصفات، الواثق بما في يدي الله ﷿، الذي أنزل الله عليه في محكم كتابه العزيز: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية [الحديد: ١٠] وقال تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: ٣٩]. وهو القائل لمؤذنه بلال، وهو الصادق المصدوق في الوعد والمقال: "أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالًا" (٤).


(١) كذا في (أ) وفي المطبوع: حين قسم …
(٢) الحديث رواه أحمد في المسند (٤/ ٤٢) والبخاري في صحيحه رقم (٤٣٣٠) في المغازي، ومسلم في صحيحه رقم (١٠٦١) في الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام.
(٣) تقدم الحديث.
(٤) قطعة من حديث رواه البزار في مسنده رقم (٣٦٥٣). والطبراني في الكبير رقم (١٠٣٠٠) وهو حديث حسن.