وقد قدَّمنا أنهم أوَّل الأمم عبدوا الأصنامَ بعد الطُّوفان، وذلك بيِّنٌ في قوله لهم: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً﴾ [الأعراف: ٦٩]. أي: جعلهم أشدَّ أهل زمانهم في الخلقة والشِّدَّة والبطش. وقال في المؤمنون: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ [المؤمنون: ٣١] وهم قوم هود على الصحيح.
وزعم آخرون أنهم ثمود لقوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً﴾ [المؤمنون: ٤١] قالوا: وقوم صالح هم الذين أهلكوا بالصَّيْحة ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٦] وهذا الذي قالوه لا يمنعُ من اجتماع الصَّيْحة والرِّيح العاتية عليهم، كما سيأتي في قصَّة أهل مَدْين أصحاب الأيكة، فإنَّه اجتمعَ عليهم أنواعٌ من العقوبات، ثم لا خلافَ أن عادًا قبلَ ثمود.
والمقصودُ أنَّ عادًا كانوا عَربًا جُفاةً كافرين، عُتاة متمردين في عبادة الأصنام، فأرسلَ اللَّه فيهم رجلًا منهم يدعوهم إلى اللَّه، وإلى إفراده بالعبادة والإخلاص له، فكذَّبوه وخالفوه وتنقَّصوه، فأخذهم اللَّهُ أخذَ عزيز مقتدر، فلما أمرهم بعبادة اللَّه ورغَّبهم في طاعته واستغفاره، ووعدَهم على ذلك خيرَ الدنيا والآخرة وتوعَّدهم على مخالفة ذلك عقوبةَ الدنيا والآخرة: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ﴾ [الأعراف: ٦٦] أي: هذا الأمرُ الذي تدعونا إليه سَفهٌ بالنسبة إلى ما نحن عليه من عبادة هذه الأصنام التي يُرتجى منها النصرُ والرزقُ، ومع هذا نظنُّ أنَّكَ تكذبُ في دعواكَ أنَّ اللَّه أرسلكَ: ﴿قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٦٧] أي: ليس الأمرُ كما تظنون ولا ما تعتقدون ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ [الأعراف: ٦٨] والبلاغُ يستلزمُ عدمَ الكذب في أصل المُبلِّغ، وعدم الزيادة فيه والنقص منه، ويستلزمُ إبلاغه بعبارة فصيحة وجيزة جامعةٍ مانعة، لا لَبْسَ فيها ولا اختلافَ ولا اضطرابَ، وهو مع هذا البلاغ على هذه الصفة في غاية النُّصْح لقومه والشفقة عليهم، والحرص على هدايتهم، لا يبتغي منهم أجْرًا ولا يطلب منهم جُعْلًا، بل هو مخلصٌ للَّه ﷿ في الدعوة إليه والنصح لخلقه، لا يطلبُ أجرَه إلا من الذي أرسلَه، فإنَّ خير الدنيا والآخرة كله في يديه وأمره إليه، ولهذا قال: ﴿يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [هود: ٥١] أي: ألكم عقل تُميِّزونَ به وتفهمونَ أني أدعوكم إلى الحقِّ المبين الذي تشهد به فِطَرُكم التي خُلقتم عليها وهو دينُ الحقِّ الذي بعثَ اللَّه به نوحًا، وأهلكَ من خالفَه من الخلق، وها أنا أدعوكُم إليه، ولا أسألُكم أجرًا عليه، بل أبتغي ذلك عند اللَّه مالكِ الضُّرِّ والنَّفْعِ، ولهذا قال مؤمنُ يس ﴿اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس: ٢١ - ٢٢] وقال قوم هود له فيما قالوا: ﴿يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾ [هود: ٥٣ - ٥٤] يقولون: ما جئتنا بخارقٍ يشهدُ لك بصدقِ ما جئت به وما نحن بالذين نتركُ عبادةَ أصنامنا عن مجرد قولك بلا دليل أقمتَه ولا برهان نصبتَه، وما نظنُّ إلا أنَّكَ مجنون فيما تزعمُه،