للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وعندنا إنما أصابَك هذا أنَّ بعضَ آلهتنا غضبَ عليك فأصابك في عَقْلك فاعتراكَ جنونٌ بسبب ذلك، وهو قولهم: ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ﴾ [هود: ٥٤ - ٥٥] وهذا تحدّ منه لهم وتبرّؤ من آلهتم وتنقُّص منه لها، وبيان أنها لا تنفعُ شيئًا ولا تضرُّ، وإنها جمادٌ حكمُها حكمُه وفعلُها فعله، فإن كانت كما تزعمون من أنها تنصر وتنفع وتضرُّ، فها أنا بريء منها لا عنٌ لها فكيدوني ثم لا تنظرون. أنتم وهي جميعًا بجميع ما يُمكنكم أن تصلوا إليه وتقدروا عليه، ولا تُؤخِّروني ساعةً واحدةً ولا طَرْفة عين، فإني لا أُبالي بكم ولا أُفكِّرُ فيكم ولا أنظر إليكم ﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: ٥٦] أي: أنا متوكِّلٌ على اللَّه ومتأيِّدٌ به، وواثق بجنابه الذي لا يضيعُ من لاذَ به واستندَ إليه، فلستُ أبالي مخلوقًا سواه، ولستُ أتوكَّل إلَّا عليه، ولا أعبدُ إلَّا إياه.

وهذا وحدهُ برهانٌ قاطعٌ على أن هودًا عبدَ اللَّه ورسولَه، وأنهم على جهل وضلال في عبادتِهم غير اللَّه، لأنهم لم يصلوا إليه بسوء ولا نالوا منه مكروهًا، فدلَّ على صدقه فيما جاءهم به وبطلان ما هم عليه وفساد ما ذهبوا إليه.

وهذا الدليل بعينه قد استدلَّ به نوحٌ قبله في قوله: ﴿يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ﴾ [يونس: ٧١].

وهكذا قال الخليلُ : ﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: ٨٠ - ٨٣].

﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٣ - ٣٤] استبعدوا أن يبعثَ اللَّه رسولًا بشريًا، وهذه الشبهةُ أدلى بها كثيرٌ من جهلة الكفرة قديمًا وحديثًا، كما قال تعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾ [يونس: ٢] وقال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (٩٤) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ [الإسراء: ٩٤ - ٩٥] ولهذا قال لهم هود : ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ﴾ [الأعراف: ١٦٣] أي: ليس هذا بعجيب فإن اللَّه أعلمُ حيث يجعلُ رسالاته (١)،


(١) كذا في الأصل، وفي المطبوع رسالته.