وأما الدَّورية فهم الذين يعتقدون أنهم يعودونَ إلى هذه الدار بعد كلِّ ستة وثلاثين ألف سنة، وهذا كلُّه كذب وكفر وجَهْل وضلال، وأقوال باطلة، وخيال فاسد بلا برهان ولا دليل، يستميل عقل الفجرة الكفرة من بني آدم، الذين لا يعقلون ولا يهتدون، كما قال تعالى: ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾ [الأنعام: ١١٣] وقال لهم فيما وعظهم به: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ [الشعراء: ١٢٨ - ١٢٩] يقول لهم: أتبنون بكلِّ مكان مرتفع بناءً عظيمًا هائلًا كالقصور ونحوها، تعبثون ببنائها، لأنه لا حاجةَ لكم فيه، وما ذاكَ إلا لأنهم كانوا يسكنون الخيامَ، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (٦) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾ [الفجر: ٦ - ٨] فعادُ إرم هم (١) عادٌ الأولى، الذين كانوا يسكنون الأعمدة التي تحملُ الخيام.
ومَنْ زعم أن إرم مدينة من ذهب وفِضَّة، وهي تنتقل في البلاد، فقد غلطَ وأخطأ، وقال ما لا دليلَ عليه، وقوله: ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ﴾ [الشعراء: ١٢٩] قيل: هي القصور. وقيل: بروج الحمام. وقيل: مآخذ الحمام ﴿لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ [الشعراء: ١٢٩] أي: رجاءً منكم أن تُعمَّروا في هذه الدار أعمارًا طويلة ﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٣٠ - ١٣٥] وقالوا له مما قالوا: ﴿أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الأعراف: ٧٠] أي: أجِئْتنا لنعبدَ اللَّه وحدَه ونخالفَ آباءَنا وأسلافنا وما كانوا عليه، فإن كنتَ صادقًا فيما جئتَ به فأتنا بما تَعدُنا من العذاب والنَّكال، فإنَّا لا نُؤمنُ بك ولا نتبعكَ ولا نُصدِّقك، كما قالوا ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٦ - ١٣٨] إمَّا على قراءة فتح الخاء، فالمراد به اختلاق الأولين، أي: إن هذا الذي جئتَ به إلا اختلاقٌ منك وأخذتَه من كتب الأوَّلين. هكذا فسَّره غير واحد من الصحابة والتابعين. وإمَّا على قراءة الخاء واللام، فالمراد به الدِّين، أي: إن هذا الدِّين الذي نحن عليه إلا دين الآباء والأجداد من أسلافنا، ولن نتحوَّلَ عنه، ولا نتغيَّرَ، ولا نزالُ مُتمسِّكين به. ويُناسب كلا القراءتين الأولى والثانية قولهم: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [الشعراء: ١٣٨] قال: ﴿قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ