للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [المزمل: ٢٠] وهذه السورة من أوائل ما نزل بمكة.

وكذلك قوله تعالى في سورة اقتربت، وهي مكية بلا خلاف: ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ [القمر: ٤٥، ٤٦] وقعَ مصداق هذه الهزيمة يومَ بدر بعد ذلك. إلى أمثال هذا من الأمور البيّنة الواضحة، وسيأتي فصلٌ فيما أخبر به من الأمور التي وفعت بعده طبقَ ما أخبر به.

وفي القرآن الأحكام العادلة أمرًا ونهيًا، المشتملة على الحكم البالغة التي إذا تأملها ذو الفهم والعقل الصحيح قطع بأن هذه الأحكام إنما أنزلها العالم بالخفيات، الرحيم بعباده، الذي يعاملهم بلطفه ورحمته، وإحسانه، قال اللّه تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام: ١١٥] أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأوامر والنواهي، وقال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: ١] أي: أحكمت ألفاظه وفصلت معانيه، وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ [الفتح:٢٨]، أي العلم النادع والعمل الصالح.

وهكذا رُوي عن علي بن أبي طالب ، أنه قال لكُمَيل بن زياد: هو كتابُ اللّه، فيه خبرُ ما قبلكم، وحكمُ ما بينكم، ونبأ ما بعدكم. وقد بسطنا هذا كله في كتابنا "التفسير" (١) بما فيه كفايه (٢).

فالقرآن العظيم معجز من وجوه كثيرة: في فصاحته، وبلاغته، ونَظمه، وتراكيبه، وأساليبه، وما تضمنه من الأخبار الماضية والمستقبلة، وما اشتمل عليه من الأحكام الجلية، والتحدّي ببلاغة ألفاظه يخصُّ فصحاء العرب، والتحدي بما اشتمل عليه من المعاني الصحيحة الكاملة- وهي أعظم في التحدي عند كثير من العلماء- يعمُّ جميعَ أهل الأرض، من الملّتين (٣) أهل الكتابين، وغيرهم من عقلاء اليونان والهند والفرس والقبط، وغيرهم من أصناف بني آدم في سائر الأقطار والأمصار.

وأما من زعم من المتكلمين (٤) أن الإعجاز إنما هو من صَرف دواعي الكفرة عن معارضته مع إنكار ذلك، أو هو سلبُ قدرتهم على ذلك، فقولٌ باطل، وهو مُفَرّعٌ على اعتقادهم أن القرآن مخلوق، خلقه اللّه في بعض الأجرام، ولا فرق عندهم بين مخلوق ومخلوق. وقولُهم هذا كفر وباطل، وليس


(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (٤/ ٢٠١).
(٢) في المطبوع زيادة: فلله الحمد والمنّة.
(٣) "الملّتين": اليهود والنصارى.
(٤) هو إبراهيم النَّظَّام من المعتزلة.