للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مطابقًا لما في نفس الأمر، بل القرآن كلامُ اللّه غير مخلوق، تكلَّم به كما شاء تعالى وتقدَّس وتنزه عما يقولون علوًا كبيرًا، فالخَلقُ كلُّهم عاجزون حقيقة وفي نفس الأمر عن الإتيان بمثله ولو تعاضدوا وتناصروا على ذلك، بل لا تقدر الرسلُ الذين هم أفصحُ الخلق وأكملُهم، أن يتكلموا بمثل كلام اللّه.

وهذا القرآن الذي يبلّغُه الرسولُ عن اللّه، أسلوبُ كلامه لا يُشبه أساليبَ كلامِ رسول اللّه ، وأساليبُ كلامه المحفوظة عنه بالسند الصحيح إليه، لا يقدر أحد من الصحابة ولا من بعدهم أن يتكلم بمثل أساليبه في فصاحته وبلاغته، فيما يرويه من المعاني بألفاظه الشريفة، بل وأسلوبُ كلام الصحابة أعلى من أساليب كلام التابعين، وهلم جرًا إلى زماننا.

وعلماء السلف أفصحُ وأعلمُ، وأقل تكلفًا، فيما يرونه من المعاني بألفاظهم من علماء الخلف، وهذا يَشهده من له ذوق بكلام الناس، كما يُدرك تفاوتَ ما بين أشعار العرب في زمن الجاهلية، وبين أشعار المولّدين الذين كانوا بعد ذلك.

ولهذا جاء الحديثُ الثابت في هذا المعنى، وهو فيما رواه الإمام أحمد قائلًا (١): حدَّثنا يونسُ وحجّاج، حدَّثنا ليث، حدَّثني سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن رسول اللّه قال: "ما من الأنبياء نبيٌّ إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وَحيًا أوحاه اللّه إليّ، فأرجو أن أكونَ أكثَرهم تابعًا يومَ القيامة".

وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الليث بن سعد به (٢).

ومعنى هذا أن الأنبياء كل منهم قد أُوتي من الحجج والدلائل على صدقه وصحة ما جاء به عن ربه ما فيه كفاية وحجة لقومه الذين بُعث إليهم، سواء آمنوا به ففازوا بثواب إيمانهم، أو جحدوا فاستحقوا العقوبة، وقوله: "وإنما كان الذي أوتيت" أي: جلّه وأعظمه، الوحي الذي أوحاه إليه، وهو القرآن، الحجّة المستمرة الدائمة القائمة في زمانه وبعده، فإن البراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم، ولم يبق منها إلا الخبر عنها، وأما القرآن فهو حجة قائمة كأنما يسمعُه السامعُ من في رسول اللّه ، فحجة الله قائمة به في حياته وبعد وفاته، ولهذا قال: "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" أي: لاستمرار ما آتاني اللّه من الحجّة البالغة والبراهين الدامغة، فلهذا يكون يوم القيامة أكثرَ الأنبياء تبعًا.


(١) في المسند (٢/ ٣٤١).
(٢) البخاري في صحيحه رقم (٤٨٩١) في فضائل القرآن، ومسلم في صحيحه رقم (١٥٢) في الإيمان.