للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ظنُّكم إن كان الأمر كما أقول لكم وأدعوكم إليه، ماذا عذركم عند اللَّه؟ وماذا يُخلِّصكُم بين يديْه؟ وأنتم تطلبونَ منِّي أن أتركَ دعاءَكم إلى طاعته، وأنا لا يُمكنني هذا لأنَّه واجبٌ عليَّ، ولو تركته لما قدر أحدٌ منكم ولا من غيركم أن يجيرني منه ولا ينصرني، فأنا لا أزالُ أدعوكم إلى اللَّه وحدَه لا شريكَ له، حتى يحكمَ اللَّه بيني وبينكم.

وقالوا له أيضًا: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ [الشعراء: ١٥٣] أي: من المسحورين، يعنون مسحورًا لا تدري ما تقولُ في دعائِك إيَّانا إلى إفراد العبادة للَّه وحده، وخلع ما سواه من الأنداد، وهذا القولُ عليه الجمهور، وهو أنَّ المراد بالمُسْحُرين المَسْحُورين. وقيل: من المُسَحَّرين، أي: ممن له سحر، وهي الرئة، كأنهم يقولون: إنما أنت بشر له سحر، والأول أظهر لقولهم بعد هذا: ﴿مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ [الشعراء: ١٥٤] وقولهم: ﴿فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الشعراء: ١٥٤] سألوا منه أنْ يأتيَهم بخارقٍ يدلُّ على صدق ما جاءَهم ﴿قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٥٥ - ١٥٦] وقال: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأعراف: ٧٣] وقال تعالى: ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا﴾ [الإسراء: ٥٩].

وقد ذكر المفسرون (١) أن ثمودًا اجتمعوا يومًا في ناديهم، فجاءَهم رسولُ اللَّه صالحٌ فدعاهم إلى اللَّه وذكَّرهم وحذَّرهم، ووعظهم وأمرَهم. فقالوا له: إنْ أنتَ أخرجتَ لنا من هذه الصخرة -وأشاروا إلى صَخْرَةٍ هناكَ- ناقةً من صِفَتها كَيْتَ وكَيْتَ، وذكروا أوصافًا سمَّوها ونعتوها، وتعنَّتوا (٢) فيها، وأن تكون عُشَرَاء (٣) طويلةً، من صفتها كذا وكذا.

فقال لهم النبيُّ صالحٌ : أرأيتم إنْ أجبتُكم إلى ما سألتُم، على الوجه الذي طلبتُم أتؤُمنونَ بما جئتكُم به وتصدقوني فيما أُرسلتُ به؟ قالوا: نعم، فأخذ عهودَهم ومواثيقَهم على ذلك، ثمَّ قامَ إلى مُصلَّاه، فصلَّى للَّه ﷿ ما قُدِّرَ له، ثم دعا ربَّه ﷿ أن يُجيبَهم إلى ما طلبُوا، فأمرَ اللَّه ﷿ تلكَ الصَّخرة أن تنفطرَ عن ناقةٍ عظيمةٍ عُشَراء، على الوجه المطلوب الذي طلبوا، أو على الصِّفة التي نَعَتُوا.

فلما عاينُوها كذلك رأوا أمرًا عظيمًا، ومَنْظرًا هائلًا، وقدرةً باهرةً، ودليلًا قاطعًا، وبُرهانًا ساطعًا، فآمنَ كثيرٌ منهم، واستمَّر أكثرُهم على كفرهم وضلالهم وعِنادهم، ولهذا قال: ﴿فَظَلَمُوا بِهَا﴾ [الإسراء: ٥٩] أي: جَحدوا بها ولم يتَّبعوا الحقَّ بسببها، أي: أكثرهم.


(١) تفسير الطبري (٥/ ٥٣٢).
(٢) "تعنتوا": تشدَّدوا.
(٣) "عشراء": الناقة التي مضى لحملها عشرة أشهر.