للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فكَمَنا في غار ثورٍ ثلاثًا، ثم ارتحلا بعدَها كما قدَّمنا، وهذا هو المرادُ بقوله: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: ٤٠] وهو المراد من قوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: ٣٠] ولهذا قال: ﴿وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٦] وقد وقعَ كما أخبرَ فإن الملأ الذين اشتوَرُوا على ذلك لم يلبثوا بمكة بعد هجرته إلا ريثما استقرَّ ركابُه الشريف بالمدينة وتابعه المهاجرون والأنصار، ثم كانت وقعة بدرٍ فقُتلت تلك النفوسُ، وكُسِرَت تلك الرؤوس، وقد كان يعلمُ ذلك قبل كونه من إخبار الله له بذلك، ولهذا قال سعدُ بن معاذ لأميّة بن خلف: أما إني سمعتُ محمّدًا يذكرُ أنه قاتلُك، فقال: أنت سمعتَه؟ قال: نعم، قال: فإنه واللّه لا يكذبُ، وسيأتي الحديثُ في بابه.

وقد قدَّمنا أنه جعلَ يُشيرُ لأصحابه قبلَ الوقعة إلى مَصارع القتلى، فما تعدَّى أحد منهم موضعَه الذي أشارَ إليه، صلوات الله وسلامه عليه.

وقال تعالى: ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: ١ - ٦] وهذا الوعدُ وقعَ كما أخبرَ به، وذلك أنه لما غَلبت فارسُ الرومَ فرحَ المشركون، واغتمَّ بذلك المؤمنون، لأن النصارى أقربُ إلى الإسلام من المجوس، فأخبرَ الله رسوله بأنَّ الرومَ ستغلبُ الفرسَ بعد هذه المدة بسبع سنين، وكان من أمر مُراهنةِ الصدّيق رؤوس المشركين على أن ذلك سيقعُ في هذه المدة، ما هو مشهورٌ كما قرَّرنَاهُ في "التفسير" (١) فوقعَ الأمرُ كما أخبرَ به القرآن، غَلبتِ الرومُ فارسَ بعد غَلَبِهم غَلَبًا عظيمًا جدًا، وقصّتُهم في ذلك يطولُ بسطُها، وقد شرحناها في "التفسير" بما فيه الكفاية، وللّه الحمدُ والمِنّةُ.

وقال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: ٥٣] وكذلك وقع، أظهرَ الله من آياتِه ودلائِله في أنفس البشر وفي الآفاق بما أوقعَه من الناس بأعداء النبوة، ومخالفي الشرع ممن كذَّبَ به من أهلِ الكتابين، والمجوس والمشركين، ما دلَّ ذوي البصائر والنُّهى على أن محمدًا رسول الله حقًا، وأن ما جاءَ به من الوحي عن الله صدق، وقد أوقعَ له في صدور أعدائه وقلوبهم رُعبًا ومهابةً وخوفًا، كما ثبتَ عنه في الصحيحين أنه قال: "نُصرتُ بالرعب


(١) تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير (٣/ ٤٢٢).