للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال قتادة: فما ظنُّكم به أنَّه فاعلٌ بكم إذا لقيتُموه وقد عبدتُم غيره (١)؟

وقال لهم ﴿قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [الشعراء: ٧٢ - ٧٤] سلَّموا له أنها لا تسمعُ داعيًا ولا تنفعُ، ولا تضرُّ شيئًا، وإنما الحاملُ لهم على عبادتِها الاقتداء بأسلافهم، ومن هو مثلهم في الضلال من الآباء الجهَّال، ولهذا قال لهم ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٧٥ - ٧٧] وهذا برهانٌ قاطعٌ على بطلان إلهية ما ادَّعَوه من الأصنام، لأنه تبرَّأ منها وتنقَّصَ بها، فلو كانت تضرُّ لضرَّته، أو تُؤَثِّرُ لأثَّرتْ فيه.

﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٥]. يقولون: هذا الكلام الذي تقوله لنا وتتنفصُ به آلهتنا، وتطعنُ بسببه في آبائنا، تقولُه مُحقَّقًا جادًّا فيه أم لاعبًا؟ ﴿قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٦]، يعني بل أقول لكم ذلك جادًّا مُحقًّا، وإنما إلهكم الله الذي لا إلَه إلا هو، هو ربُّكم وربُّ كلِّ شيءٍ فاطر السموات والأرض، الخالق لهما على غير مثال سبق، فهو المستحقُّ للعبادة وحدَه لا شريكَ له، وأنا على ذلكم من الشاهدين.

وقوله: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٧] أقسمَ ليكيدنَ هذه الأصنامَ التي يَعبدونها بعدَ أن يوثُوا مدبرينَ إلى عيدهم. قيل: إنه قال هذا خفيةً في نفسه. وقال ابن مسعود: سمعَه بعضُهم وكان لهم عيدٌ يذهبون إليه في كلّ عام مرَّةً إلى ظاهر البلد، فدعاه أبوه ليحضرَه، فقال: إني سقيم، كما قال تعالى: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ٨٨، ٨٩]، عرَّض لهم في الكلام حتى توصَّل إلى مقصوده من إهانة أصنامهم، ونُصرة دين الله الحقِّ في بطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام، التي تستحقُّ أن تُكسرَ، وأن تُهانَ غايةَ الإهانة.

فلمَّا خرجوا إلى (٢) عيدهم، واستقرَّ هو في بلدهم: ﴿فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ﴾ [الصافات: ٩١] أي: ذهبَ إليها مُسرعًا مُستخفيًا، فوجدَها في بهوٍ عظيمٍ، وفد وَضعُوا بين أيديها أنواعًا من الأطعمة قربانًا إليها ﴿فَقَالَ﴾ على سبيل التَّهكُّم والازدراء: ﴿أَلَا تَأْكُلُونَ (٩١) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾ [الصافات: ٩١ - ٩٣] لأنها أقوى وأبطشُ وأسرعُ وأقهرُ، فكسَّرها بقَدُوم في يده كما قال تعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا﴾ [الأنبياء: ٥٨]، أي: حُطامًا، كسَّرها كلَّها ﴿إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ [الأنبياء: ٥٨] قيل: إنه وضعَ القَدُوم في يد الكبير، إشارة إلى أنَّه غارَ أن تُعبدَ معه هذه الصغار، فلما رجعُوا من عيدهم ووجدوا ما حلَّ بمعبودهم ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٩].


(١) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (٧/ ٧٨).
(٢) كذا في ب، وفي أ: من عيدهم.