وهذا فيه دليلٌ ظاهر لهم لو كانوا يعقلون، وهو ما حلَّ بآلهتهم التي كانوا يعبدُونها، فلو كانت آلهةً لدفعتْ عن أنفسها منْ أرادَها بسوء، لكنَّهم قالوا من جهلهم وقلَّة عقلهم، وكثرةِ ضلالهم وخَبَالهم ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء: ٥٩، ٦٠] أي: يذكرها بالعيب والتَّنقُّص لها والازدراء بها، فهو المقيم عليها والكاسرُ لها. وعلى قول ابن مسعود، أي: يذكرُهم بقوله: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٧] ﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾ [الأنبياء: ٦١]، أي: في الملأ الأكبر على رؤوس الأشهاد، لعلَّهم يشهدونَ مقالتَه، ويسمعونَ كلامَه، ويُعاينون ما يحلُّ به من الاقتصاص منه.
وكان هذا أكثرَ مقاصدِ الخليل ﵇ أن يجتمعَ النَّاسُ كلُّهم، فيقيمَ على جميع عُبَّاد الأصنام الحجَّةَ على بُطلان ما هم عليه، كما قال موسى ﵇ لفرعون: ﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ [طه: ٥٩].
فلما اجتمعوا وجاؤوا به كما ذكروا ﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (٦٢) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ [الأنبياء: ٦٢، ٦٣] قيل: معناه هو الحامل لي على تكسيرها، وإنما عرَّضَ لهم في القول ﴿فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٣] وإنما أرادَ بقوله هذا أن يُبادروا إلى القول بأن هذه لا تنطقُ، فيعترفوا بأنَّها جمادٌ كسائرِ الجمادات ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٤] أي: فعادوا على أنفسهم بالملامة، فقالوا: إنكم أنتم الظالمون، أي: في تركها لا حافظَ لها، ولا حارسَ عندها ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ قال السُّدي: أي: ثم رجعوا إلى الفتنة فعلى هذا يكون قولهم ﴿إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أي: في عبادتها. وقال قتادة: أدركتِ القومَ حيرةُ سوء، أي: فأطرقوا ثم قالوا: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٥] أي: لقد علمت يا إبراهيمُ أن هذه لا تنطقُ، فكيف تأمرُنا بسؤالها؛ فعندَ ذلك قال لهم الخليل ﵇: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء: ٦٦، ٦٧] كما قال: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ [الصافات: ٩٤] قال مجاهد: يُسرعون. قال: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ [الصافات: ٩٥] أي: كيف تعبدون أصنامًا أنتم تنحتونها من الخشب والحجارة، وتصوِّرونها وتُشكِّلونها كما تُريدون ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: ٩٦] وسواءٌ كانت ما مصدرية، أو بمعنى الذي، فمقتضى الكلام أنَكم مخلوقون، وهذه الأصنامُ مخلوقةٌ، فكيف يعبدُ مخلوقٌ لمخلوقٍ مثله؟ فإنه ليس عبادتكم لها بأولى من عبادتِها لكم. وهذا باطل، فالآخر باطل للتحكُّم، إذ ليست العبادة تصلحُ ولا تجبُ إلا للخالق وحده لا شريكَ له.
﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾ [الصافات: ٩٧، ٩٨] عَدلُوا عن الجِدال والمناظرة لمَّا انقطعوا وغُلبوا، ولم تبقَ لهم حجَّة ولا شُبهة إلا استعمال قوَّتهم وسلطانهم،