للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأنزلَ الله إليه مَلَكَ الجبال وأمرَه بطاعته فيما يأمُره به من إهلاك قومه، فاختارَ الصبر على أَذِيَّتِهم، والابتهال في الدعاء لهم بالهداية.

قلت: وهذا أحسن، وقد تقدَّمَ الحديث بذلك عن عائشة، عن رسول الله ؛ في قصة ذهابه إلى الطائف، فدعاهم فآذوه، فرجع وهو مهموم، فلما كان عند قَرنِ الثعالب ناداه مَلَكُ الجبال فقال: يا محمَّد! إنَّ ربَّكَ قد سمعَ قولَ قومِكَ وما ردُّوا عليكَ، وقد أرسلني إليكَ لأفعلَ ما تأمرُني به، فإن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين - يعني: جبلي مكة اللذين يكتنفانها جنوبًا وشمالًا، أبو قبيس والأحمر - فقال: "بل أستأني بهم لعلَّ الله أن يُخرجَ من أصلابهم من لا يشرك بالله شيئًا" (١). وقد ذكرَ الحافظُ أبو نُعيم في مقابلة قوله تعالى: ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر: ١٠ - ١٢] أحاديث الاستسقاء عن أنس وغيره، كما تقدَّم ذكرنا لذلك في دلائل النبوة قريبًا؛ أنه سأله ذلك الأعرابي أن يدعوَ الله لهم، لما بهم من الجدب والجوع، فرفعَ يديه وقال: "اللهم اسقنا، اللهم اسقنا" (٢) فما نزلَ عن المنبر حتى رُئيَ المطرُ يتحادرُ على لحيته الكريمة ، فاستحضرَ من استحضرَ من الصحابة قولَ عمِّه أبي طالب فيه:

وأَبيضَ يُستسقَى الغَمَامُ بوجهِهِ … ثِمالُ اليَتَامَى عِصمةٌ لِلأرامِلِ

يَلُوذ بهِ الهلاكُ مِن آلِ هاشِمٍ … فَهُم عِندَه في نِعمَةٍ وَفَواضِلِ

وكذلك استسقى في غير ما موضع للجدب والعطش فيُجاب كما يُريدُ على قَدْرِ الحاجة المائيَّة، ولا أزيد ولا أنقص، وهذا أبلغُ في المعجزة، وأيضًا فإن هذا ماءُ رحمةٍ ونعمة، وماءُ الطُوفان، ماءُ غَضَب ونقمة، وأيضًا فإنَّ عمرَ بن الخطاب كان يَستسقي بالعبَّاس عمِّ النبي فيُسقون، وكذلك ما زالَ المسلمون في غالب الأزمان والبلدان، يَستسقونَ فيُجابون فيُسقون، و [غيرُهم] لا يُجابون غالبًا ولا يُسقون، وللّه الحمد.

قال أبوَ نُعيم: لبثَ نوحٌ في قومه ألفَ سنة إلا خمسين عامًا، فبلَّغَ جميعَ من آمن به رجالًا ونساء، الذين ركبوا معه في السفينة، دون مئة نفس، وآمنَ بنبيِّنا - في مدة عشرين سنة - النَّاسُ شرقًا وغربًا، ودانت له جبابرةُ الأرض وملوكها، وخافت زوال ملكهم، ككسرى وقيصر، وأسلم النجاشيُّ والأقيال رغبة في دين الله، والتزمَ من لم يُؤمن به من عظماء الأرض الجزية، والإيادة عن صَغار، أهلُ نجران، وهجر، وأيلعة، وأكيدر دومة، فذلُّوا له منقادينَ، لما أيده الله به من الرُّعب الذي يسير بين يديه شهرًا،


(١) رواه البخاري في صحيحه رقم (٣٢٣١) في بدء الخلق، ومسلم في صحيحه رقم (١٧٩٥) في الجهاد والسير، و "الأخشبان": هما الجبلان المطيفان بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهُه على قُعَيْقِعَان. والأخشب: كل جبل خشن غليظ الحجارة.
(٢) تقدم الحديث.