للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أنَّهم في مَنَعة من اللهِ لا يعبدونه ولا يدعونه، فأجهدهم عيشًا، وأضلَّهم دينًا، في ظلف (١) من الأرض مع ما فيه من السحاب، فختمهم الله بمحمدٍ، وجعلهم الأمة الوسطى، نصرهم بمن اتَّبعهم، ونصرهم على غيرهم، حتى قبض الله فركب منهم الشيطانُ مركبَهُ الذي أنزله عليه، وأخذ بأيديهم، وبغى هلكتهم ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٤] إنّ منْ حولكم من العرب منعوا شاتَهم وبعيرَهم، ولم يكونوا في دينهم - وإن رجعوا إليه - أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا، على ما تقدَّم من بركةِ نبيّكم ، وقد وكلكم إلى المولى الكافي، الذي وجدَهُ ضالًا فهداه، وعائلًا فأغناه ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ [آل عمران: ١٠٣] الآية، والله لا أدَعُ أن أقاتلَ على أمر الله حتى يُنْجزَ اللهُ وعدَه، ويوفي لنا عهدَه، ويُقْتل من قُتل منّا شهيدًا من أهل الجنة، ويَبْقَى من بَقي منها خليفَتَه، وذريَّته في أرضِهِ، قضاءُ اللهِ الحقُّ، وقولُه الذي لا خلفَ له ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [النور: ٥٥] الآية، ثم نزلَ.

وقال الحسن وقتادة وغيرهما في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: ٥٤] الآية، قالوا: المرادُ بذلك أبو بكر وأصحابُه، في قتالهم المُرْتدِّين، ومانعي الزكاة (٢).

وقال محمد بن إسحاق: ارتدَّتِ العربُ عند وفاةِ رسول الله ما خلا أهل المسجدين، مكة، والمدينة، وارتدَّت أسد وغطفان وعليهم طُلَيْحة بن خُوَيْلدٍ الأسدي الكاهن، وارتدَّت كندةُ ومن يليها، وعليهم الأشعثُ بن قيس الكِنْدي، وارتدَّتْ مَذْحجٌ ومن يليها، وعليهم الأسود بن كعب العَنْسي الكاهن، وارتدَّتْ ربيعةُ مع المعرور بن النعمان بن المنذر، وكانت حنيفةُ مقيمةً على أمرها مع مُسَيْلمة بن حبيب الكذّاب، وارتدَّت سليم مع الفجاءة، واسمه أنس بن عبد يا ليل، وارتدَّتْ بنو تَميم مع سَجَاحِ الكاهنة.

وقال القاسم بن محمد (٣): اجتمعت أسد وغطفان وطيء على طُلَيْحة الأسدي، وبعثوا وفودًا إلى المدينة، فنزلوا على وجوه الناس فأنزلوهم إلا العباس، فحملوا بهم إلى أبي بكر، على أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فعزم الله لأبي بكر على الحق وقال: لو مَنَعوني عِقالًا لجاهَدْتُهم، فردَّهم فرجَعوا إلى عشائرهم، فأخبروهم بقلَّة أهل المدينة، وطمَّعوهم فيها، فجعلَ أبو بكر الحرسَ على أنقاب (٤) المدينة، وألزمَ أهلَ المدينة بحضور المسجد وقال: إنّ الأرضَ كافرةٌ، وقد رأى وفدهم منكم قلّةً، وانكم لا تدرون ليلًا يأتون أم نهارًا، وأدناهم منكم على بريدٍ، وقد كان القومُ يُؤَمِّلون أن نقبل منهم


(١) الظَلَف من الأرض - بفتح الظاء واللام - الغليظ الصلب من الأرض مما لا يبين فيه أثر. اللسان (ظلف).
(٢) تفسير ابن كثير (٢/ ٥٩٥) طبعة دار الأندلس.
(٣) تاريخ الطبري (٣/ ٢٤٤ - ٢٤٨).
(٤) أنقاب: جمع نَقْب ونُقب: الطريق. اللسان (نقب).