للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نوادعهم وقد أبَيْنا عليهم، فاستعدّوا وأعدّوا، فما لبثوا إلَّا ثلاثًا حتى طرفُوا المدينة غارةً، وخلَّفوا نصفَهم بذي حُسَى ليكونوا ردءًا لهم، وأرسلَ الحرس إلى أبي بكر يخبرونه بالغارةِ، فبعث إليهم: أن الْزموا مكانَكم. وخرج أبو بكر في أهل المسجد على النَّواضِح (١) إليهم، فانفشَّ العدوُّ واتَّبعهم المسلمونَ على إبلهم، حتى بلغوا ذا حُسًى (٢)، فخرجَ عليهم الرِّدْء فالتقوا مع الجمع، فكان الفتح وقد قال: [من الطويل]

أطعَنْا رسولَ الله ما كانَ وَسطَنا … فَيا لعبادِ الله ما لأبي بكرِ

أيورثنا بَكْرًا إذا ماتَ بعدَه … وتِلكَ لَعمرُ الله قاصِمَةُ الظَّهرِ

فَهَّلا رَدَدتُم وَفْدنا بِزَمانِهِ؟ … وَهلَّا خَشِيتُم حِسَّ راغيةِ البكرِ؟

وإنَّ التي سألوكموا فمَنَعْتُموا … لكالتَّمرِ أو أحلى إليَّ منَ التَّمر

وفي جمادى الآخرة ركب الصّدّيقُ في أهل المدينة وأمراءِ الأنقاب، إلى من حول المدينة من الأعراب الذين أغاروا عليها، فلما تواجه هو وأعداؤه من بني عَبْسٍ، وبني مُرَّة، وذبيان، ومنْ ناصب معهم من بني كنانة، وأمدَّهم طُلَيْحة بابنه حبال، فلما تواجه القوم كانوا قد صنعوا مكيدةً وهي أنهم عمدوا إلى أنحاء (٣) فنفخوها ثم أرسلوها من رؤوس الجبال، فلما رأتها إبلُ أصحاب الصديق نفرت وذهبت كلَّ مذهبٍ، فلم يملكوا من أمرها شيئًا إلى الليل، وحتى رجعت إلى المدينة، فقال في ذلك الخُطَيْل بن أوس: [من الطويل]

فِدىً لِبَني ذبيان رحلي وناقتي … عَشِيَّةَ يَحدي (٤) بالرِّماحِ أبو بكر

ولكن يُدَهْدى (٥) بالرِّجَالِ فَهَبنهُ … إلى قدر ما أن تقيمَ ولا تسري (٦)

ولله أجنادٌ تُذاقُ مَذَاقَهُ … لِتُحسبَ فيما عُدَّ من عَجَب الدَّهرِ

أطعنا رسولَ الله ما كان بينَنا … فَيا لعبادِ الله ما لأبي بَكرِ

فلما وقع ما وقع ظنَّ القوم بالمسلمين الوَهن، وبعثوا إلى عشائرهم من نواحي أُخَر، فاجتمعوا، وباتَ أبو بكر قائمًا ليله يُعَبِّئُ الناسَ، ثم خرجَ على تعبئة من آخر الليل، وعلى ميمنته النُّعمانُ بن مُقَرِّنٍ، وعلى المَيْسرة أخوه عبد الله بن مُقرِّن، وعلى السَّاقةِ أخوهما سُويد بن مُقرِّن، فما طلعَ الفجرُ إلا وهم والعدوُّ في صعيدٍ واحدٍ، فما سمعوا للمسلمين حسًا ولا همسًا، حتى وضعوا فيهم السيوف، فما طلعتِ الشمسُ حتى ولُّوهم الأدبار، وغلبوهم على عامةِ ظهرهم، وقُتل حبال، واتَّبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة، وكان أول الفتح، قى ذلّ بها المشركون، وعزّ بها المسلمون، ووثب بنو


(١) النَّواضح من الإبل: التي يستقى عليها واحدها ناضح. اللسان (نضح).
(٢) ذو حُسى: واد بأرض الشِّرْبّة من ديار عبس وغطفان. معجم البلدان (٢/ ٢٥٨).
(٣) الأنحاء: جمع نحو وهو الظرف. اللسان (نحو).
(٤) في الطبري (٣/ ٢٤٥): يحذى.
(٥) دهده ودهدى يدهدي: دحرج وقلب بعضه على بعض. اللسان (دهده).
(٦) في الطبري: إلى قدرٍ ما إن يزيدُ ولا يَحري.