للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يزل ثابتًا حتى قُتل هناك، وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى أن نؤتى من قبلك؟ فقال: بئس حامل القرآن أنا إذًا، وقال زيد بن الخطاب: أيها الناس عَضُّوا على أضراسكم، واضربوا في عدوِّكم وامضوا قدمًا، وقال: والله لا أتكلَّمُ حتى يهزمهم اللهُ أو ألقىَ اللهَ فأكلِّمه بحجَّتي، فقُتل شهيدًا .

وقال أبو حذيفة: يا أهلَ القرآنِ زيِّنوا القرآنَ بالفِعال، وحملَ فيهم حتى أبعدَهم وأصيب ، وحملَ خالدُ بن الوليد حتى جاوزَهم، وسار لحيال مسيلمة وجعل يترقَّب أن يصلَ إليه فيقتلَه، ثم رجع ثم وقف بين الصَّفَّيْن ودعا البراز، وقال: أنا ابن الوليد العَوْد (١)، أنا ابن عامر وزيد، ثم نادى بشعار المسلمين - وكان شعارهم يومئذ: يا محمداه - وجعل لا يبرز لهم أحدٌ إلا قتله، ولا يدنو منه شيء إلا أكله.

ودارت رحى المسلمين، ثم اقترب من مسيلمة، فعرض عليه النَّصَفَ (٢) والرجوع إلى الحق، فجعل شيطانُ مسيلمةَ يلوي عنقه، لا يقبلُ منه شيئًا، وكلّما أراد مسيلمةُ يقاربُ من الأمر صرفه عنه شيطانه، فانصرف عنه خالد وقد ميز خالد المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وكل بني أبٍ على رايتهم، يقاتلون تحتها، حتى يعرفَ الناسُ من أين يُؤْتون، وصبرت الصحابةُ في هذا الموطن صبرًا لم يُعْهد مثلُه، ولم يزالوا يتقدَّمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم، وولى الكفارُ الأدبارَ، واتَّبعوهم يقتلون في أقفائهم، ويضعونَ السيوفَ في رقابهم حيث شاؤوا، حتى ألجؤوهم إلى حديقة الموت، وقد أشار عليهم محكَّمُ اليمامة - وهو محكَّم بن الطفيل لعنه الله - بدخولها، فدخلوها وفيها عدوُّ الله مسيلمةُ لعنه الله، وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر محكمَ بن الطفيل فرماه بسهمٍ في عنقه وهو يخطب فقتله، وأغلقتْ بنو حنيفة الحديقةَ عليهم، وأحاط بهم الصحابةُ، وقال البراءُ بن مالك: يا معشرَ المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة (٣)، فاحتملوه فوق الجحف ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم من فوق سورها، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقةَ من حيطانها وأبوابها يقتلون من فيها من المُرْتدَّةِ من أهل اليمامة، حتى خلصوا إلى مسيلمة لعنه الله، وإذا هو واقفٌ في ثُلْمةِ جدارٍ كأنه جملٌ أورقٌ (٤)، وهو مُزْبدٌ يتساندُ، لا يعقلُ من الغَيْظِ، وكان إذا اعتراه شيطانُه أزبدَ حتى يخرج الزَّبَدُ من شِدْقَيْه، فتقدّم إليه وحشيُّ بن حرب مولى جُبَيْر بن مُطْعِم - قاتل حمزة - فرماه بحربته فأصابه وخرجت من الجانب الآخر، وسارع إليه أبو دُجانة سماك بن خرشة، فضَربه بالسيْف فسقطَ، فنادت امرأةٌ من القصر: وا أمير الوضاءة، قتله العبدُ الأسود.


(١) "العَوْد": الجمل المسن وفيه بقية وهو المدرَّب. اللسان (عود) والنهاية في غريب الحديث (٣/ ٣١٧).
(٢) النَّصَفُ والنَّصفةُ والإنصاف: إعطاء الحق. اللسان (نصف).
(٣) في ط: الحديثة؛ تحريف.
(٤) الأورق من الإبل: الذي في لونه بياض إلى سواد. وقال أبو عبيد: الأورق: أطيب الإبل لحمًا وأقلها شدة على العمل والسير وليس بمحمود عندهم في عمله وسيره. اللسان (ورق).