للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقالت مرَّة: إنَّها سألتْ عثمانَ: لِمَ دعاكَ رسولُ اللّه ؟ قال: "إنِّي كنتُ رأيتُ قَرْني الكبش حين دخلتُ البيتَ، فنسيتُ أنْ آمرَك أنْ تُخَمِّرَهُما فَخَمِّرْهُما، فإنَّه لا ينبغي أن يكونَ في البيت شيءٌ يَشغلُ المصلِّي". قال سفيان: لم تزلْ قرنا الكبش في البيت حتَّى احترقَ البيتُ فاحترَقا.

وهذا رُوي عن ابن عبَّاس: أنَّ رأسَ الكَبْش لم يزلْ مُعلَّقًا عند ميزاب الكعبة قد يبسَ.

وهذا وحده دليلٌ على أنَّ الذبيحَ إسماعيلُ، لأنه كانَ هو المقيمُ بمكَّةَ، وإسحاقُ لا نعلمُ أنَّه قدمها في حال صِغَره، واللّه أعلم. وهذا هو الظاهر من القرآن، بل كأنَّه نصٌّ على أنَّ الذبيحَ هو إسماعيلُ، لأنه ذكرَ قِصَّةَ الذبيح، ثم قال بعده: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات: ١١٢] ومنْ جعله حالًا فقد تكلَّف، ومستنده أنَّه إسحاق إنما هو إسرائيليات، وكتابُهم فيه تحريفٌ، ولاسيما هاهنا قطعًا لا محيدَ عنه، فإنَّ عندهم أنَّ اللّه أمرَ إبراهيمَ أنْ يذبحَ ابنَه وحيدَه، وفي نسخة من المعرَّبة: بكْرَه إسحاق. فلفظة إسحاق هاهنا مقحمةٌ مكذوبةٌ مفتراة، لأنه ليس هو الوحيدُ ولا البِكْرُ، ذاكَ إسماعيل.

وإنما حملَهم على هذا حَسْدُ العربِ، فإنَّ إسماعيلَ أبو العرب الذين يسكنون الحجازَ، الذين منهم رسولُ اللّه ، وإسحاقُ والد يعقوب، وهو إسرائيل، الذين ينتسبونَ إليه، فأرادوا أنْ يجرّوا هذا الشرفَ إليهم، فحرَّفوا كلامَ اللّه، وزادُوا فيه، وهم قومٌ بُهْتٌ (١)، ولم يُقرُّوا بأنَّ الفضلَ بيد الله يُؤتيه من يشاءُ.

وقد قال بأنَّه إسحاق طائفةٌ كثيرةٌ من السَّلف، وغيرهم، وإنما أخذوه - واللّه أعلم - من كعب الأحبار، أو صُحُف أهل الكتاب، وليس في ذلك حديثٌ صحيحٌ عن المعصوم حتَّى نتركَ لأجله ظاهرَ الكتاب العزيز، ولا يُفهم هذا من القرآن بل المفهومُ، بل المنطوقُ، بل النَّصُّ عند التَّأمُّل على أنه إسماعيل.

وما أحسن ما استدلَّ محمَّدُ بن كعب القرظي (٢) على أنه إسماعيل، وليس بإسحاق، من قوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود: ٧١] قال: فكيفَ تقعُ البشارةُ بإسحاق، وأنَّه سيولدُ له يعقوب، ثم يُؤمرُ بذبح إسحاق وهو صغيرٌ قبلَ أن يُولد له، هذا لا يكون، لأنَّه يُناقضُ البشارةَ المتقدِّمة، والله أعلم.


(١) "بهت": باطل.
(٢) أخرجه ابن جرير عن ابن إسحاق (١٠/ ٥١٣).