للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلما طال على المسلمين هذا الحالُ واستمرَّ، جمع النعمان بن مُقَرّن أهل الرأي من الجيش، وتشاوروا في ذلك، وكيف يكون من أمرهم حتى يتواجهوا هم والمشركون في صعيدٍ واحدٍ.

فتكلّم عمرو بن أبي سلمى أولًا - وهو أسنُّ من كان هناك - فقال: إن بقاءَهم على ما هم عليه أضرّ عليهم من الذي يطلبه منهم وأبقى على المسلمين. فردَّ الجميع عليه وقالوا: إنّا لعلى يقين من إظهار ديننا، وإنجاز موعود الله لنا.

وتكلّم عمرو عليه معدي كرب فقال: ناهِدْهُم وكاثِرْهم ولا تَخَفْهم.

فردّوا جميعًا عليه وقالوا: إنما تناطح بنا الجدران، والجدرانُ أعوانٌ لهم علينا.

وتكلم طُلَيْحَةُ الأسديُّ فقال: إنهما لم يصيبا، وإني أرى أن تبعثَ سريةً فتحدق بهم ويناوشوهم بالقتال ويحمشوهم (١) فإذا برزوا إليهم فليفروا إلينا هرابًا، فإذا استطردوا وراءهم وانتهوا (٢) إلينا عزمنا أيضًا على الفرار كلّنا، فإنهم حينئذ لا يشكّون في الهزيمة فيخرجون من حصونهم عن بكرةِ أبيهم، فإذا تكاملَ خروجُهم رجعنا إليهم فجالدناهم حتى يقضيَ اللهُ بيننا. فاستجادَ الناس هذا الرأيَ، وأمَّر النعمان على المجرَّدة القعقاع بن عمرو، وأمرهم أن يذهبوا إلى البلد فيحاصروهم وحدهم ويهربوا بين أيديهم إذا برزوا إليهم. ففعل القعقاعُ ذلك، فلما برزوا من حصونهم نكص القعقاعُ بمنْ معه ثم نكص ثم نكص فاغتنمها الأعاجمُ، ففعلوا ما ظنَّ طُلَيْحةُ، وقالوا: هي هي، فخرجوا بأجمعهم ولم يبقَ بالبلد من المُقاتلة إلا من يحفظُ لهم الأبوابَ، حتى انتهَوْا إلى الجيش، والنعمانُ بن مقرِّن على تعبئته. وذلك في صدر نهار جمعة، فعزم الناس على مصادمتهم، فنهاهم النعمان وأمرهم أن لا يقاتلوا حتى تزول الشمس، وتهب الأرواح، وينزل النصرُ كما كان رسول الله يفعل. وألحَّ الناس على النعمان في الحملة فلم يفعل - وكان رجلًا ثابتًا - فلما حانَ الزوال صلَّى بالمسلمين ثم ركبَ بِرْذَوْنًا له أحْوَى (٣) قريبًا من الأرض، فجعل يقف على كل راية ويحثهم على الصبر ويأمرهم بالثبات، ويقدم على المسلمين أنه يُكبِّر الأولى فيتأهبُ الناسُ للحملة، ويُكبِّر الثانية فلا يبقى لأحد أُهبة، ثم الثالثة ومعها الحملة الصادقة. ثم رجع إلى موقفه. وتعبَّئتِ الفرس تعبئةً عظيمةً واصطلفّوا صفوفًا هائلة، في عدد وعُدد لم ير مثله، وقد تغلغل (٤) كثيرٌ منهم بعضهم في بعض وألقوا حَسَكَ الحديد وراء ظهورهم حتى لا يمكنهم الهربُ ولا الفرارُ، ولا التحيّز.

ثم إن النعمانَ بن مُقَرّن كبَّر الأولى وهزّ الرايةَ فتأهب الناسُ للحملة، ثم كبَّر الثانيةَ وهزَّ


(١) حَمَشَ الرجلَ؛ أحمشه: أغضبه. اللسان (حمش).
(٢) في ط: وانتموا.
(٣) الحُوَّة: سواد إلى الخضرة، قيل: حمرة تضرب إلى السواد، وهو أحوى اللسان (حوا).
(٤) في أ: ويغلغل.