للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الرايةَ فتأهّبوا أيضًا، ثم كبَّر الثالثةَ (وحمل) وحمل (١) الناس على المشركين وجعلت راية النعمان تنقض على (٢) الفرس كانقضاضِ العقاب على الفريسة، حتى تصافحوا بالسيوف فاقتتلوا قتالًا لم يُعْهَدْ مثله في موقفٍ من المواقف المتقدمة، ولا سمعَ السامعون بوقعة (٣) مثلها، قُتل من المشركين ما بين الزوال إلى الظلام من القتلى ما طبَّقَ وجهَ الأرض دمًا، بحيث إن الدواب كانت تطبع فيه، حتى قيل: إن الأمير النعمانَ بن مُقَرِّن زلق به حصانُه في ذلك الدم فوقع وجاءه سهمٌ في خاصرته (فقتله)، ولم يشعر به أحدٌ سوى أخيه سُوَيْد، وقيل نُعَيْم، وقيل غَطّاهُ بثوبه، وأخفى موتَه، ودفع الرايةَ إلى حُذيفة بن اليمان، فأقام حذيفة أخاه نُعيمًا مكانَه، وأمر بكتم موته حتى ينفصلَ الحالُ لئلا ينهزم الناس.

فلما أظلم الليلُ انهزم المشركون مدبرين وتبعهم المسلمون وكان الكُفّار قد قرنوا منهم ثلاثين ألفًا بالسلاسل وحفروا حولهم خندقًا، فلما انهزموا وقعوا في الخندق وفي تلك الأودية نحو مئة ألف وجعلوا يتساقطون في أودية بلادهم فهلك منهم بشرٌ كثيرٌ نحو مئة ألف أو يزيدون، سوى منْ قُتل في المعركة، ولم يُفلت منهم إلا الشَّريد. وكان الفيرزان أميرهم قد صرع في المعركة فانفلت وانهزم واتبعه نُعيم بن مُقَرّن، وقدم القعقاع بين يديه وقصد الفيرزان هَمَذان فلحقه القَعْقاعُ وأدركه عند ثنية هَمَذان، وقد أقبل منها بغالٌ كثيرٌ وحُمُر تحمل عسلًا، فلم يستطع الفيرزان صعودها منهم، وذلك لحينه فترجَّلَ وتعلَّق في الجبل فاتبعه القعقاعُ حتى قتله، وقال المسلمون يومئذ: إنَّ لله جنودًا من عسل، ثم غنموا ذلك العسل وما خالطه من الأحمال وسُمِّيتْ تلك الثَّنيةُ ثَنيَّةَ العسل. ثم لحق القعقاعُ بقيةَ المنهزمين منهم إلى هَمَذان وحاصرها وحوى ما حولها، فنزل إليه صاحبُها - وهو خُسْرَ شَنُوم - فصالحه عليها. ثم رجع القعقاع إلى حُذيفة ومنْ معه من المسلمين، وقد دخلوا بعد الواقعةِ نهاوند عنوةً، وقد جمعوا الأسلابَ والمغانمَ إلى صاحب الأقباض (٤)، وهو السائبُ بن الأقرع. ولما سمع أهلُ ماه بخبر أهل هَمَذان بعثوا إلى حُذَيْفة وأخذوا لهم منه (٥) الأمان، وجاء رجل يقال له الهِرْبذ (٦) - وهو صاحب نارهم - فسأل من حذيفة الأمان ويدفع إليهم وديعةً لكسرى، ادخرها لنوائب الزمان، فأمَّنه حُذيفة وجاء ذلك الرجل بسفطين مملوءين (٧) جوهرًا ثمينًا لا يُقَوَّم، غير أنّ المسلمين لم يَعْبَؤُوا به، واتَّفق رأيهم على بعثه (٨) لعمر خاصة، وأرسلوه


(١) في هامش أ: قال: إني داعٍ فأمنوا على دعائي ثم قال: اللهم ارزقني الشهادة بنصر المسلمين وافتح عليهم؛ فأمن القوم على دعائه، ثم إن النعمان بن مقرن
(٢) في أ: نحو.
(٣) في أ: بموقعة.
(٤) الأقباض جمع قَبَضَ وهو ما جُمع من الغنائم قبل أن تُقسم. اللسان (قبض).
(٥) في أ: بقية.
(٦) في أ، ط: الهرند وما هنا عن تاريخ الطبري (٤/ ١٣٣).
(٧) في ط: مملوءتين. وما هنا أقرب للسياق اللغوي.
(٨) في أ: يعثهم.