للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بالباب تنتظره، فقال لها مسلم بن عَقيل: اسقيني ماءً، فسقَته، ثم دخلت وخرجت فوجدته، فقالت: ألم تشرب؟ قال: بلى. قالت: فاذهب إلى أهلك عافاك اللَّه، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أُجمله لك. فقام فقال: يا أمة اللَّه! ليس لي في هذا البلد منزل ولا عشيرة، فهل لك إلى أجر ومعروف وفعل نكافئك به بعد اليوم؟ فقالت: يا عبد اللَّه وما هو؟ قال: أنا مسلم بن عَقيل، كَذَبني هؤلاء القوم وغرُّوني. فقالت: أنت مسلم؟ قال: نعم. قالت: ادخل. فأدخلته بيتًا من دارها غير البيت الذي تكون فيه، وفرشت له، وعرضت عليه العَشاء فلم يتعشَّ، فلم يكن بأسرعَ من أن جاء ابنها، فرآها تكثر الدخول والخروج، فسألها عن شأنها، فقالت: يا بنيَّ الْهُ عن هذا، فألحَّ عليها، فأخذت عليه أن لا يحدِّث أحدًا، فأخبرَتْه خبر مسلم، فاضطجع إلى الصباح ساكتًا لا يتكلَّم.

وأما عبيد اللَّه بن زياد، فإنه نزل من القصر بمن معه من الأمراء والأشراف بعد عِشَاء الآخرة، فصلَّى بهم العِشاء في المسجد الجامع، ثم خطبهم وطلب منهم مسلم بن عَقيل وحثَّ على طلبه، ومَنْ وُجد عنده ولم يعلم به فدمُه هَدَر، ومَنْ جاء به فله دِيَتُه، وطلب الشُّرَط وحثَّهم على ذلك وتهدَّدهم.

فلمّا أصبح ابن تلك العجوز ذهب إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فاعلمه بأنَّ مسلم بن عَقيل في دارهم، فجاء عبد الرحمن فسارَّ أباه بذلك وهو عند ابن زياد، فقال ابن زياد: ما الذي سارَّك به؟ فأخبره الخبر، فنَخَس (١) بقضيب في جَنْبه وقال: قم فائتني به الساعة.

وبعث ابن زياد عمرو (٢) بن حُريث المخزومي -وكان صاحب شُرطته- ومعه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث في سبعين أو ثمانين فارسًا، فلم يشعر مسلم إلّا وقد أُحيط بالدار التي هو فيها، فدخلوا عليه، فقام إليهم بالسيف فأخرجهم من الدار ثلاث مرات، وأُصيبت شفته العليا والسُّفلى، ثم جعلوا يرمونه بالحجارة، ويُلهبون النار في أطناب القصب ويلقونها عليها، فضاف بهم ذرعًا، فخرج إليهم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه عبد الرحمن الأمان، فأمكنه من يده، وجاؤوا ببغلة فأركبوه عليها، وسلبوا عنه سيفه، فلم يبق يملك من نفسه شيئًا، فبكى عند ذلك وعرف أنه مقتول، فيئس من نفسه وقال: إنا للَّه وإنا إليه راجعون. فقال بعض مَنْ حوله: إنَّ من يطلب مثل الذي تطلُب لا يبكي إذا نزل به هذا. فقال: أما واللَّهِ لست أبكي على نفسي، ولكن أبكي على الحسين وآل الحسين، إنه قد خرج إليكم اليوم أو أمسِ من مكّة. ثم التفت إلى محمد بن الأشعث فقال: إن استطعتَ أن تبعث إلى الحسين على لساني تأمره بالرجوع فافعل، فبعث محمد بن الأشعث إلى الحسين يأمره بالرجوع فلم يصدِّق الرسولَ في ذلك، وقال: كل ما حمَّ (٣) الإله واقع.


(١) "نخس": غرز.
(٢) تحرف في المطبوع إلى: عمر.
(٣) "حمَّ": قدَّر وقضى.