للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ورفعهما على العرش أي: أجلسهما معه على سريره ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ أي: سجدَ له الأبوان والإخوة الأحدَ عشر تعظيمًا وتكريمًا، وكان هذا مشروعًا لهم، ولم يزلْ تلك معمولًا به في سائر الشرائع حتَى حَرُمَ في مِلَّتنا.

﴿وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: هذا تعبير ما كنتُ قَصَصْتُه عليكَ من رؤيتي الأحدَ عشر كوكبًا والشمس والقمر، حين رأيتهم لي ساجدين، وأمرتني بكتمانها ووعدتني ما وعدتني عند ذلك ﴿قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ أي: بعد الهمِّ والضيق جعلني حاكمًا نافذَ الكلمة في الديار المصرية حيث شئت ﴿وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾ أي: البادية وكانوا يسكنون أرضَ العربات من بلاد الخليل ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ أي: فيما كان منهم إليّ من الأمر الذي تقدَّم وسبقَ ذكره. ثم قال ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾ أي: إذا أراد شيئًا هيَّأ أسبابَه ويسَّرها وسهَّلها من وجوه لا يهتدي إليها العباد، بل يقدرها وُييَسِّرها بلطيف صُنْعه وعظيم قُدْرته ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ﴾ أي: بجميع الأمور ﴿الْحَكِيمُ﴾ في خلقه وشرعه وقدره.

وعند أهل الكتاب: أن يوسفَ باع أهلَ مصرَ وغيرَهم، من الطعام الذي كان تحتَ يده، بأموالهم كلها من الذهب والفضة والعقار والأثاث، وما يملكونه كله، حتى باعهم بأنفسهم فصاروا أرقاء. ثم أطلقَ لهم أرضهم، وأعتقَ رقابهم، على أن يعملوا ويكون خُمُسُ ما يستغلُّون من زَرْعهم وثمارهم للملك، فصارت سُنَّةَ أهل مصرَ بعده.

وحكى الثعالبيُّ (١): أنه كان لا يشبعُ في تلك السنين حتى لا ينسى الجيعانَ، وأنه إنما كان يأكل أكلةً واحدة نصفَ النهار. قال: فمن ثمَّ اقتدى به الملوكُ في ذلك. قلت: وكان أميرُ المؤمنين. عمرُ بن الخطاب لا يشبعُ بطنه عام الرمادة حتى ذهبَ الجدْبُ وأتى الخِصْبُ.

قال الشافعي: قال رجلٌ من الأعراب لعمرَ بعدما ذهب عام الرمادة: لقد انجلتْ عنك، وإنك لابن حرَّة.

ثم لما رأى يوسفُ نعمتَه قد تمَّت، وشملَه قد اجتمعَ، عرفَ أن هذه الدار لا يُقرّ بها قرار، وأنَّ كلَّ شيء فيها ومنْ عليها فان. وما بعد التمام إلا النقصان، فعند ذلك أثنى على ربِّه بما هو أهله، واعترف له بعظيم إحسانه وفضله. وسألَ منه وهو خيرُ المسؤولين أن يتوفَاه -أي: حينَ يتوفَاه- على الإسلام، وأن يُلحقه بعبادِه الصَّالحين، وهكذا كما يقال في الدعاء: "اللهم أحينا مسلمين وتوفَّنا


(١) قصص الأنبياء؛ للثعالبي (ص ١٢٩).