وقد ذكر الزبير بن بكار، عن أبي محمد الجزري قال: كانت بالمدينة جارية مغنِّية يقال لها سلّامة، من أحسن النساء وجهًا، وأتمهنَّ عقلًا، وأحسنهنَّ قدًّا، قد قرأت القرآن، وروت الشعر وقالته، وكان عبد الرحمن بن حسان والأحوص بن محمد يجلسان إليها. فعلقت الأحوص، وصدَّت عن عبد الرحمن، فرحل ابن حسان إلى يزيد بن معاوية إلى الشام، فامتدحه ودلَّه على سلّامة وجمالها وحسنها وفصاحتها. وقال: لا تصلح إلا لك يا أمير المؤمنين، وأن تكون من سمّارك، فأرسل يزيد، فاشتُريت له وحُملت إليه، فوقعت منه موقعًا عظيمًا، وفضَّلها على جميع من عنده. ورجع عبد الرحمن إلى المدينة فمرَّ بالأحوص فوجده مهمومًا، فأراد أن يزيده إلى ما به من الهم همًّا فقال:
يا مُبْتَلى بالحبِّ مَقْروحا … لاقى مِنَ الحبِّ تباريحا
أفحمَهُ الحبُّ فما يَنْثَني … إلَّا بكأسِ الحبِّ مَصْبُوحا
وصارَ ما يُعْجِبُهُ مُغْلَقًا … عنهُ وما يَكْرَهُ مَفْتُوحا
قد حازَها مَنْ أصبحتْ عندَهُ … ينالُ منها الشَّمَّ والرِّيحا
قال: فأمسك الأحوص عن جوابه، ثم غلبه وجدُه عليها، فسار إلى يزيد، فامتدحه، فأكرمه يزيد وحظي عنده، فدسَّت إليه سلّامة خادمًا وأعطته مالًا على أن يدخله عليها، فأخبر الخادم يزيد بذلك، فقال: امض لرسالتها، ففعل وأدخل الأحوص عليها وجلس يزيد في مكان يراهما ولا يريانه، فلما بصرت الجارية بالأحوص بكت إليه وبكى إليها، وأمرت فأُلقي له كرسي فقعد عليه، وجعل كل واحد منهما يشكو إلى صاحبه شدة شوقه إليه، فلم يزالا يتحدثان إلى السَّحر، ويزيد يسمع كلامهما من غير أن يكون بينهما ريبة، حتى إذا همَّ الأحوص بالخروج قال:
أمسى فُؤادي في همٍّ وبَلْبالِ … مِنْ حبِّ مَنْ لمْ أزلْ منهُ على بالِ
فقالت:
صَحَا المحبُّونَ بعدَ النَّأي إذ يَئِسُوا … وقد يَئِسْتُ وما أَصْحُو على حالِ