للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم قال له مخاطبًا ومؤانسًا ومبيِّنًا له أنه القادر على كل شيء، الذي يقول للشيء كن فيكون ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى﴾ أي: أما هذه عصاك التي نعرفها منذ صَحِبْتها!؟ ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾. أي: بل هذه عصاي التي أعرفها وأتحقّقها، ﴿قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (١٩) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾ [طه: ١٩ - ٢٠]. وهذا خارقٌ عظيم، وبرهانٌ قاطعٌ على أن الذي يكلِّمه هو الذي يقول للشيء كن فيكون، وأنّه الفعّال بالاختيار.

وعند أهل الكتاب: أنه سألَ برهانًا على صِدْقه عند مَن يكذِّبُه من أهل مصر، فقال له الربِّ ﷿: ما هذه التي في يدك؟ قال: عصا. قال: ألقها إلى الأرض، ﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ﴾، فهرب موسى من قدَّامها، فأمره الرَّبُّ ﷿ أن يبسط يده، ويأخذها بذنبها، فلما استمكن منها ارتدت عصا في يده، وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى: ﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ أي: قد صارت حيةً عظيمةً لها ضخامةٌ هائلةٌ وأنيابٌ تصطك، وهي مع ذلك في سرعة حركة الجان، وهو ضرب من الحيَّات (١)، يقال: الجان والجِنَّان، وهو لطيف لكنه سريع الاضطراب والحركة جدًا، فهذه جمعت الضخامةَ والسرعةَ الشديدة، فلمّا عاينها موسى ﴿وَلَّى مُدْبِرًا﴾ أي: هاربًا منها، لأن طبيعة البشريَّة تقتضي ذلك ﴿وَلَمْ يُعَقِّبَ﴾ أي: ولم يلتفت، (فناداه ربُّهُ) قائلًا له: ﴿يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾ فَلَمَّا رَجَعَ أمَرَهُ اللهُ تعالَى أَنْ يمسكها، ﴿قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى﴾ [طه: ٢١]. فيقال: إنَّه هابَها شديدًا، فوضع يده في كمّ مِدْرَعَته (٢)، ثم وضع يده في وسط فمها. وعند أهل الكتاب: بذنبها. فلمَّا استمكن منها، إذا هي قد عادت كما كانت عصا ذات شعبتين. فسبحان القدير العظيم ربِّ المشرقين والمغربين.

ثم أمره تعالى بإدخال يده في جيبه، ثم أمره بنزْعها، فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضًا ﴿مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾، أي: من غير برص ولا بَهَق (٣)، ولهذا قال: ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ﴾ [القصص: ٣٢] قيل: معناه إذا خِفتْ فضع يدك على فؤادك يسكن جأشُك. وهذا وإن كان خاصًا به، إلا أن بركة الإيمان به حق بأن (٤) تنفع من استعمال ذلك على وجه الاقتداء بالأنبياء (٥).

وقال في النمل: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ [آية: ١٢] أي: هاتان الآيتان، هما: العصا واليد، هما البرهانان المشار إليهما في قوله: ﴿فَذَانِكَ


(١) في اللسان، والجانُّ: ضرب من الحيات أكحل العينين، يَضرِب إلى الصفرة، لا يؤذي .. والجمع جِنَّان.
(٢) المدرعة: ضرب من الثياب، ولا تكون إلا من الصوف، اللسان: درع.
(٣) البهق، بفتحتين: بياض يعتري الجسد بخلاف لونه؛ ليس من البرص.
(٤) في ب: حق الإيمان ينفع من استعمل.
(٥) من قوله: ثم أمره تعالى … إلى هنا زيادة من ب وط.