للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم أمر ببيع تلك المراكب الخليفيَّة فيمن يزيد، وكانت من الخيول الجياد المثمَّنة؛ فباعها وجعل أثمانها في بيت المال.

قالوا: ولما رجع من الجنازة وقد بايعه الناس واستقرَّتِ الخلافة باسمه، انقلب وهو مغتمٌّ مهموم، فقال له مولاه: ما لك هكذا مغتمًا مهمومًا وليس هذا بوقت هذا؟ فقال: ويحك! وما لي لا أغتمُّ وليس أحدٌ من أهل المشارق والمغاربِ من هذه الأمة إلا وهو يطالبُني بحقِّه أنْ أُؤدِّيهُ إليه؛ كتبَ إليَّ في ذلك أو لم يكتبْ، طلبه مني أو لم يطلبْ؟! قالوا: ثم إنه خَيَّرَ امرأته فاطمةَ بَيْنَ أنْ تُقيمَ معه على أنه لا فراغ له إليها، وبَيْنَ أنْ تلحقَ بأهلها؛ فبكَتْ وبكى جواريها لبكائها، فسمعت ضجة في داره، ثم اختارت مقامها معه على كل حالٍ رحمها الله.

وقال له رجل: تفرُغُ لنا يا أمير المؤمنين؟ فأنشأ يقول:

قدْ جاءَ شغلٌ شاغلُ … وعدَلْتَ عن طرقِ السلامَهْ

ذهبَ الفراغُ فلا فرا … غَ لنا إلى يومِ القيامَة (١)

وقال الزُّبير بن بكَّار: حدّثني محمد بن سلَّام عن سلَّام بن سُليم قال: لما وَلي عمر بن عبد العزيز صعِدَ المنبر وكان أوَّل خطبةٍ خطبَها، حمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، من صحبنا فليصحَبْنا بخمس، وإلَّا فَلْيفارِقْنا. يَرفع إلينا حاجةَ مَنْ لا يستطيعُ رفعَها، ويُعيننا على الخير بجهده، ويدلُّنا من الخير على ما لا نهتدي إليه؛ ولا يغتابنَّ عندنا الرعيَّة، ولا يعرضنَّ فيما لا يَعنيه. فانقشع عنه الشعراءُ والخطباء، وثبتَ معه الفقهاءُ والزُّهَّاد، وقالوا: ما يسَعُنا أن نفارقَ هذا الرجلَ حتى يخالفَ فعله قوله (١).

وقال سفيانُ بن عيينة: لما ولي عمرُ بن عبد العزيز بعث إلى محمد بن كعب ورجاءِ بن حَيْوَة وسالم بن عبد الله فقال لهم: قد ترَوْنَ ما ابتُليتُ به، وما قد نزلَ بي، فما عندكم؟ فقال محمد بن كعب: اجعل الشيخَ أبًا، والنَّصَفَ أخًا، والشابَّ ولدًا (٢)، فبِرَّ أباك وصِلْ أخاك، وتعطَّفْ على ولدِك.

وقال رجاء: ارضَ للناسِ ما تَرْضَى لنفسك، وما كرهتَ أن يؤتى إليك فلا تأتِهِ إليهم، واعلم أنك أوَّل خليفةٍ تموت.


(١) تاريخ ابن عساكر (٥٤/ ١٣٨).
(٢) في (ح): "والضعيف أخًا والشابَّ ولدًا"، وفي (ب): "والضيف أخًا والشابَّ ولدًا"، وفي (ق): "والشاب أخًا والصغير ولدًا"، والمثبت من تاريخ ابن عساكر (٥٤/ ١٣٩)، والنصف: الكهل، كأنه بلغ نصف عمره. اللسان (نصف).

<<  <  ج: ص:  >  >>