أمّ المؤمنين عائشة رجلًا يقول لأناس وهم سائرون في طريق الحجّ: أي أخ أمَنُّ على أخيه؟ فسكت القوم، فقالت عائشة: لمن حولَ هودجها: هو موسى بن عمران حين شفع في أخيه هارون، فأوحي إليه (١)، قالَ الله تعالى ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا﴾، وقال تعالى في سورة الشعراء: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (١١) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٧) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (١٩) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ [الآيات: ١٠ - ٢٠] تقدير الكلام: فأَتَيَاه فقالا له ذلك، وبلَّغاه ما أُرْسلا به من دعوته إلى عبادة الله تعالى وحدَه لا شريك له، وأن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته، وقهره، وسطوته، وتركهم يعبدون ربّهم حيث شاؤوا، ويتفرَّغون لتوحيده، ودعائه، والتضرُّع لديه، فتكبَّر فرعون في نفسه، وعتا، وطغى، ونظر إلى موسى بعين الازدراء والتنقّص قائلًا له: ﴿أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾ أي: أما أنت الذي ربَّيناه فيِ منزلنا وأحسنَّا إليه، وأنعمنا عليه مدةً من الدَّهر؟ وهذا يدلّ على أنَّ فرعون الذي بُعث إليه هو الذي فرَّ منه، خلافًا لما عند أهل الكتاب من أن فرعون الذي فَرَّ منه مات في مُدّة مقامه بِمَدْين، وأن الذي بُعِث إليه فرعونٌ آخر.
وقوله: ﴿وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ أي: وقتلت الرجل القبطي، وفررت منّا، وجحدت نعمتنا، ﴿قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ﴾ أي: قبل أن يوحَى إليَّ وينزَل عليَّ ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا﴾ أي: نبوَّة، ﴿وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: ٢١]. ثم قال، مجيبًا لفرعون عما امتنّ به من التربية والإحسان إليه: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: ٢٢]، أي: وهذه النعمة التى ذكرت من أنّك أحسنت إليّ، وأنا رجل واحد من بني إسرائيل تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله، واستعبدتهم في أعمالك، وخدمِك، وأشغالك.
يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاولة، والمحاجَّة، والمناظرة، وما أقامه الكليم على فرعونَ اللئيمِ من الحجّة العقليّة المعنويّة ثم الحسيِّة. وذلك أنَّ فرعون قَبَّحه الله أظهر جحد الصانع ﵎، وزعم أنّه الإله ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى (٢٣) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات: ٢٣ - ٢٤]. وقال: ﴿يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ